لا يقطع رتابة الزمن البليد الرجراج داخل الزنزانة المعتمة سوى صوت سعال حاد لأحد المعتقلين ممن أصيبوا بالسل بسبب الرطوبة التي تلتصق بكل شيء في المكان، مشهد استفاق عليه يوما “أبو محمد الشامي” وهو اسم مستعار اختاره معتقل سابق في صيدنايا. وعاش منذ وقت مبكر الواقع المرير الذي يعيشه السوريون بسبب مصادرة المشاركة السياسية من قبل النظام الحاكم لم يجد فرصة للتنفيس عن رفضه لهذا الواقع إلا باللجوء إلى الدين الذي اتضحت من خلاله له أمور كانت خفية عنه سابقاً مثل المخطط الإيراني لتشييع المنطقة.
وكالعادة كان المسجد هو الرابط الذي ربطه بأفراد دعوته، إذ يقول لـ”زمان الوصل”: “كنا 5 أشخاص بداية وبعد أن نفرغ من صلاة الجمعة نذهب لبيت أحدنا ونتبادل الأحاديث والمعلومات الدينية المتعلقة بواقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي ونتدارس فيما بيننا السبل التي من خلالها نستطيع صناعة التغيير أو نثر بذوره.
كان أبو محمد الشامي يعمل في مكتبة بلبنان ويتردد إلى سوريا لزيارة أهله وأصدقائه وفي عام 2007 تم اعتقال اثنين من أصدقائه وبعد 6 أشهر أي في عام 2008 قامت أحداث بيروت بين ميليشيا حزب الله و”تيار المستقبل” وتعطل العمل وشعر محدثنا بالخوف -كما يقول- بسبب رؤيته سيارات بلا لوحات و”زجاج فيميه” تعتقل شاباً تحت بيته، فعاد بعدها إلى دمشق بضغط من عائلته.
بعد أسابيع من إقامته في دمشق قام فرع المهام بتوجيه من المقدم “سهيل الحسن” بمراقبة تحركاته واتصالاته وأثناء تواجده في اجتماع عمل داهمت دورية مخابرات جوية المكان واقتادته إلى مطار المزة العسكري.
ويروي محدثنا إن سيارة “مرسيدس ستيشن” لون أحمر برفقة عناصر مسلحين حضرت آنذاك إلى مكان تواجده وطلبوا هويته وعندما تأكدوا أنه الشخص المطلوب وضعوه في السيارة وجلس اثنان على يمينه وشماله ووضعوا قميصياً فوق رأسه.
بعد وصوله إلى فرع المهام في المطار أُدخل أبو محمد إلى ضابط فرع المهام المقدم “سهيل الحسن” الذي صافحه وضغط على يده بشدة قائلاً له “شد حالك وين عزماتك”، وطلب له كوب ماء بارد “مشان الرعبة” فلم يشرب.
أطلع “سهيل الحسن” المعتقل أبا محمد على معلومات من ملفه وصورة قديمة له
يقول:”تم تحويلي للديوان ومنه إلى سجن فرع التحقيق وكان الوقت متأخراً” ويتابع:”أدخلوني إلى زنزانة انفرادية بقيت فيها 36 ساعة دون أن يحدثني أحد”.
بعد 36 ساعة بدأ الحمام الدموي –كما يؤكد محدثنا- حيث أخرجه عناصر الفرع إلى محقق نقيب يدعى “باسل” مغمض العينين مقيد اليدين، وبدأ يسأله عن المعلومات التي يعرفها وبسبب معرفته أن الأشخاص الذين أورد “سهيل الحسن” معلومات عنهم اعتقلوا أطلع المحقق على ما حدث، ولكن هذا الاعتراف لم يشفع له، فبمجرد عدم الإخبار عما جرى كان تهمة لوحدها (تستر).
منذ اليوم الثاني تحت التعذيب عرف “أبو محمد الشامي” أن من وشى به “نضال المحمد” وهو فلسطيني سوري يُلقب بأبي خليل ويعمل موظف تموين بدرعا وعلى علاقة برؤوس الأفرع الأمنية مثل “عبد الفتاح قدسيه ” وغيره.
وأشار محدثنا إلى أن مهمة المذكور كانت إنشاء تنظيم وتسليم عناصره للنظام وتمكن -كما يؤكد محدثنا- من اختراق “جند الشام” في مضايا وحماه وسلم ما يقارب 100 شخص من عناصره للنظام.
وبعد خروجه أبلغ “أبو محمد” عن “نضال المحمد” لكتيبة “المعتز بالله” في درعا، لكن بسبب تأمينه للخبز للمناطق التي هو فيها وتعامله مع الجيش الحر، تم رفض التبليغ، ويؤكد محدثنا أنه تواصل مع مسؤول تنسيقية “جيللين” عبر النت، ونقل له المعلومات حول المخبر المذكور فرد عليه أن المحمد لا يصلي الفجر إلا حاضراً ويستحيل أن يكون عميلاً للنظام.
بالعودة إلى يوميات الاعتقال، وعندما شارف التحقيق على الانتهاء قام عناصر الفرع بـ”شبح” الشامي داخل زنزانته لمدة أربعة أيام مطالبين إياه بمزيد من المعلومات، وبعد أسبوعين يئسوا من الحصول على المزيد من المعلومات فتم إيقاف التحقيق معه، وبقي “الشامي” في زنزانته يلملم جراحه ويبدل الجلد الذي تم سلخه –كما يقول.
بعد أسبوع تم نقل المعتقل “الشامي” إلى زنزانة جماعية بقي فيها لمدة شهر تقريباً ثم جرى تحويله إلى فرع “فلسطين”، حيث بقي هناك أربعة أشهر ونصف لم يتعرض خلالها للتعذيب، ومن ثم تم تحويله إلى سرية المداهمة فرع (215)، لأن سجن صيدنايا كان يغلي بالأحداث والعصيان آنذاك، وفي السرية المذكورة أمضى محدثنا 7 أشهر ونصف شاء القدر أن يُصاب خلالها بمرض السل مع عدد من رفاق زنزانته وأوشك على الموت جرّاء هذا المرض لولا عناية الله”.
*النهاية في المبنى الأبيض
وأنهى الشامي “رحلة ابن بطوطة” كما يسميها في المبنى الأبيض حرف L بسجن صيدنايا وهناك -كما يروي- أدخل مع رفاقه بحفلة التشريفات المعهودة في صيدنايا حينها حفاة عراة، ولكن تم إيقاف عقوبة الـ500 جلدة بعد أحداث السجن وبعد 4 أشهر من بقائه في صيدنايا، تم استدعاء الشامي من جديد إلى فرع الجوية في المزة وهناك عاش 6 أشهر أشبه بالجحيم أواخر عام 2009 وبداية 2010، حيث كان يُحشر72 معتقلاً في زنزانة لا تكاد تتسع 15 منهم.
وكان المعتقلون –كما يروي الشامي- يضطرون لخلع ثيابهم ويبقون بالسروال الداخلي من شدة الحر الناتج عن ضيق التنفس، رغم أن الجو كان كانونياً، وعند دخول موسم الربيع في شهر أيار مايو تحديداً مات 4 أشخاص في أسبوع واحد فقط بسبب قلة الأوكسجين وشدة الحر وقلة النوم وعدم الخروج إلى الحمامات إلا كل 24 ساعة وانتشار الأمراض الجلدية والتناسلية، قبل أن يتدخل “جميل الحسن” مدير الإدارة ليفتتح سجناً سرياً في مبنى هيئة الأركان العامة “آمرية الجوية” ليخفف الضغط عن سجن المزة.
بعد فترة من اعتقاله في فرع الجوية بالمزة عاد المعتقل الشامي إلى صيدنايا للعلاج من مرض السل الذي ترك له رئة متكلسة وثلاث جلطات أغلقت جميع الأوردة الرئيسية في قدمه اليسرى.
ولدى عودته ثانية إلى صيدنايا كان أبو محمد الشامي شاهداً على عملية إعدام مجموعة من الأشخاص فيه ابتداء من 22 /4 / 2011 وحينها –كما يقول- اجرت إدارة السجن مراسم إعدام جماعية لأكثر من شخص يومياً في المبنى الأبيض، وكان السجناء الآخرون يميزون هذه الإعدامات من خلال اختفاء الحرس والعسكريين من جميع المحارس وباحات السجن وقدوم سيارة إسعاف واحدة لكل محكوم بالإعدام بالإضافة إلى قدوم عدة سيارات مدنية تقل الأطباء الشرعيين المشرفين على الإعدام، إضافة إلى مدير السجن الذي كان وقتها العميد محفوض (أبو شوارب) وأغلب المعدومين هم ممن حكموا على خلفية أحداث صيدنايا مثل أبو حُذيفة الأردني والقاعود وغيرهم.
خرج أبو محمد الشامي من السجن بعد بداية الثورة إثر إلغاء قانون الطوارئ، وإلغاء محكمة أمن الدولة العليا برئاسة “فايز النوري” الذي يصفه المعتقلون بمصاص الدماء. وكان الإفراج عنه من السجن بسبب عدم إدانته بأي جناية أو جرم يلزم السجن لأجله، ولازال حتى الآن يعاني من آثار هذه المِحنة التي عاشها ولا يزال يعيشها آلاف من أحرار سوريا.