خلا المزيد من الخطابات الجوفاء والشعارات الرعناء التي يرددها النظام السوري منذ نصف قرن كامل، من مثل “أنها مؤامرة” “الكرة في ملعب الآخرين” “الحياة في سوريا وردية”، لم يقل ويفعل مؤتمر عودة اللاجئين السوريين، الذي نظمته روسيا برعاية النظام السوري في العاصمة السورية دمشق قبل أيام قليلة، أي شيء آخر ذو معنى ومضمون. لأجل ذلك بالضبط، فأنه كشف وأعلن كل شيء، بوضوح تام، فضح حقيقة وجوهر ما ينوي ويخطط الفاعلون الرئيسيون في الملف السوري تنفيذه في المستقبل المنظور، روسيا إيران والنظام السوري، من حيث إبقاء كل الأشياء على ما هي عليها: إن عبر المزيد من العنف المادي والرمزي تجاه المجتمع والقوى الداخلية السورية، أو من خلال خلق الكثير من الابتزاز للدول والمؤسسات الدولية.
حسب ذلك، وحينما لا تأبه روسيا بغياب كل القوى العالمية، التي تعتبر روسيا نفسها واحدة منها، عن مؤتمر من المفترض أن ينشغل بمعضلة ذات أبعاد وتأثيرات على مستوى العالم، فإنها بذلك تُقول حرفياً بأنها دولة احتلال مباشر، لسوريا ومجتمعها ومسألتها، أي أن مسألة ملايين اللاجئين السوريين لا تخرج عن كونها ملفاً سيادياً روسياً داخلياً. وتالياً فإن روسيا هي بحلٍ عن أي التزام قانوني أو أخلاقي تجاه هذا الملف، بالذات قرار مجلس الأمن الدولي 2254.
تُسقط تلك الحقيقة مجموعة من الديناميكيات التي تروج لها روسيا وتحيط بالفضاء السياسي السوري، أشياء مثل الاجتماعات الماراثونية اللجنة السورية، التي صارت بالتقادم مجرد قصة مكاذبة مفتوحة. إلى مستوى قريب من ذلك، فأن آلية آستانة التوافقية، التي كانت تُراعي النفوذ التركي نوعاً ما، فأنها أيضاً صارت بحكم الملغية. فتركيا كشريك عضوي لكل من إيران وروسيا في الملف السوري، غدت مُبعدة وغير مرئية في أهم قضية سورية، وأكثرها تأثيراً على تركيا بالذات، الدولة المستضيفة للكتلة الأكبر من اللاجئين السوريين (قرابة ثلاثة ملايين لاجئ سوري).
على أن أهم تفصيل ودلالة في السلوك الروسي هذا إنما هو انحدار مكانة ودور روسيا الكلي في المسألة السورية، ليكون شيئاً قريباً ومشابهاً لما تفعله إيران من استراتيجيات قطعية.
فروسيا طوال السنوات الماضية كانت حريصة على خلق تمايز ما لها عن إيران، بدرجة أو أخرى. فقد ظلت مواظبة على التمييز بين القوى السياسية والعسكرية المناهضة لنظام الأسد، وتصر على أن الحل السياسي وحده هو الحل النهائية، وأنها لا تدافع عن شخص رأس النظام السوري، ولا عن هذا الشكل من النظام الحاكم. وأنها يمكن أن ترضى بغير الأسد لحكم البلاد بطريقة توافقية، وأن تُدخل تحولات جوهرية في بنية النظام. على عكس إيران، التي بقيض مصرة بوضوح بأن بقاء الأسد ونظامه، بالشكل الذي كان وما يزال عليه، هو مسألة أمن قومي بالنسبة لها، وأنها في سبيل ذلك مستعدة لفعل كل شيء، بما في ذلك إيقاظ وإدارة حروب الكراهية الطائفية والقومية، وأن تغير طبيعة الأشياء والديموغرافيات والمناطق، فقط ليبقى من تعتبره حليفها الاستراتيجي.
راهناً، وحسب نتائج هذا المؤتمر، تهبط روسيا لأن تكون في تلك المكانة الإيرانية بالضبط، بكل فروضها ومما قد تجره من نتائج مستقبلية، بالذات من حيث المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن المظلومية السُنية التي تشكل المجريات السورية أهم تمظهرات وآليات تشكلها. تلك النتائج التي قد تنفجر داخل روسيا، تنفجر وليس أي أمر آخر.
هذا الموقع الجديد، الجامع بين روسيا وإيران، أنما يقول للمجتمع الدولي، بالذات للمنظومة الأوربية والولايات المتحدة الأميركية، بأن جميع رهاناتها على صراع روسي إيراني في الملف السوري، أو أية تعهدات روسيا بإيجاد حلول موضوعية وعقلانية للمسألة السورية، أنما هي فقط أضغاث أحلام. وأن هذه القوى الدولية يجب أن تعترف بروسيا وإيران كدولتين منتصرتين في الحرب السورية وكل استطالاتها، وفقط كذلك.
مقابل ذلك، فإن الموقع الوحيد الذي تستطيع هاتان الدولتان أن توفره للقوى الدولية هو قبول عودة اللاجئين السوريين، لكن فقط لتكون تلك العودة شكلاً من أشكال إعادة التوطين. أي أن يتكفل المجتمع الدولي، بالذات المنظومة الأوروبية، ما قد يترتب على ذلك مالياً، من إعادة إعمار للمدن السورية، أو تقديم الخدمات للمخيمات التي قد تُشيدها هاتان الدولتان لملايين اللاجئين السوريين هؤلاء، داخل بلدانهم. وإن لم تقبل القوى الدولية بذلك، فعليها فقط أن تتوقع مزيداً من اللاجئين، شيء يطابق ابتزاز إردوغان التقليدي بملف اللاجئين.
خلاصة كل ذلك كانت كامنة في كلمة رأس النظام السوري أثناء المؤتمر، الذي سرد خطاباً متخماً بالثقة بالذات وراحة الضمير، متغاضياً تماماً عن كل الوقائع السورية، التي ظهرت وكأنها تجري في كوكب آخر، لا في بلد محكوم منه ومن والده، منذ نصف قرن تماماً (اليوم هو الذكرى الخمسين لحُكم العائلة الأسدية لسوريا).
بسرده لذلك الخطاب السلطوي الأرعن في مؤتمر اللاجئين، فأن أية مراهنة على أن تؤثر الوقائع السورية على خيارات الأسد، هي مجرد أوهام. حتى لو صار شبح الجوع يهدد ملايين السوريين، قرابة نصفهم على الأقل، وصارت طوابير الخبز والبنزين والأدوية بعدة كيلومترات، وطبعاً لو بيقت المدن السورية مدمرة وصارت البلاد محكومة من قادة الميليشيات والعصابات الحاكمة، ودخلت مناطق مثل السويداء وحوران في حروب أهلية، وحتى لو حدث أي شيء، فأن الأسد سيبقى على ما هو عليه، مجرد غول للسلطة المطلقة.