أثار مصطلح “العدالة التصالحية” الذي ورد في إحاطة المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون أمام مجلس الأمن في السادس عشر من الشهر الجاري والمتعلقة بنتائج الجولة الرابعة لأعمال اللجنة الدستورية السورية، ردود فعل غاضبة وسط صفوف مؤيدي الثورة السورية وأهالي آلاف الضحايا الذين سقطوا خلال السنوات الماضية. كما أثار المصطلح الكثير من التعليقات في أوساط الحقوقيين والخبراء في مجال القانون الدولي الإنساني.
وعلى ذمة بيدرسون فإن وفد المجتمع المدني هو من قدم مجموعة من النقاط حول العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين في الخارج منها إعادة أملاك اللاجئين ومساكنهم وتحقيق العدالة التصالحية قبل أن ينفي بعض ممثلي المجتمع المدني ما ورد على لسانهم خلال اجتماعهم مع بيدرسون، وأنه ربما حدث خطأ في الترجمة حيث كانوا يتحدثون عن العدالة التعويضية. في حين أشار الصحفي أيمن عبد النور إلى أن بيدرسون رفض خلال اجتماع لاحق مع ممثلي المجتمع المدني في اللجنة الدستورية تغيير استخدام مصطلح “العدالة التصالحية” كمصطلح سياسي تم تثبيته في وثائق الأمم المتحدة. مشيراً إلى أنه يبدو أن هناك خطأ بالترجمة ولكنه لا يستطيع تغييره الآن، مضيفاً أن هذه قضية صغيرة لا داعي لتكبيرها أمام المشكلة السورية.
ما قام به ممثلو المجتمع المدني يمثل خيبة جديدة في سلسلة اخفاقات اللجنة الدستورية التي توالت خلال الفترة الأخيرة بشكل متسارع، فقبل أيام قدمت هيئة التفاوض التي تمثل المعارضة في اللجنة الدستورية ورقة تتضمن مجموعة من المبادئ حول المضامين والبنود الدستورية سلمت فيها جميع أوراقها لوفد النظام وتنازلت فيها عن كل تطلعات الشعب السوري في الوصول إلى تسوية عادلة تضمن إحقاق الحقوق ومعاقبة الجناة والمضي في عملية سياسية وفق ما رسمته قرارات الأمم المتحدة وعلى رأسها القرار 2254!
لكن ما المقصود بـ”العدالة التصالحية” ولماذا أثارت كل هذه الضجة؟
“العدالة التصالحية” هي نوع من العدالة الاجتماعية بمقتضاها نعطل القانون ونمنحه مهلة عن التطبيق ونضعه جانباً ونستعيض بالعدالة الجزائية التي يقررها القانون عادة بمجموعة من الأدوات مثل تنظيم لقاءات بين الضحايا وذويهم مع الجاني، وأحياناً مع مجتمع أوسع، وخلال هذه اللقاءات يشارك الضحايا مع الجاني تجربتهم ومشاعرهم وكيف أثرت بهم الجريمة لحمل الجاني على تحمل مسؤولية أفعاله وفهم الضرر الذي تسبب به، وذلك بهدف خلق نوع من التوافق في الآراء بشأن ما يمكن أن يفعله الجاني لإصلاح الضرر الذي نجم عن جريمته، وخلال هذه الجلسات غالباً ما تسيطر مشاعر وانفعالات عاطفية يتخللها حديث الجاني عن الدوافع التي حملته على ارتكاب الجريمة وربما يعبر فيها عن ندمه وحزنه وتنتهي باعتذار الجاني عن فعلته وتعهده بتعويض الضحايا بمبلغ من المال والتعهد بعدم التسبب لهم بضرر في المستقبل، وفي النهاية يصفق الحضور بما فيهم الضحايا وذووهم للجاني على مشاعره وتعاطفه معهم، وربما يعيّنون له مستشاراً نفسياً للتخلص من حالة مشاعر الحزن التي أبداها خلال جلسة “العدالة التصالحية”.
هذا النوع من العدالة بدأ ينتشر بشكل واسع ويطبق في العديد من الدول الغربية خلال السنوات الماضية خاصة في المدارس تجاه الجرائم التي يرتكبها المراهقون دون وعي بحق زملائهم، حيث يتم جمع أهالي الضحية والجاني والكادر المدرسي وممثلين عن المنظمات الحقوقية والاجتماعية التي تعنى بهذا النوع من العدالة، ويتم عقد جلسات تشبه المحاكمات لكن بدون وجود للجهات المكلفة بإنفاذ القانون أو القضاة وربما يتم الاستعاضة عنهم بخبراء نفسيين ومرشدين اجتماعيين لإدارة هذه الجلسات التي تنتهي في الغالب بحل المشكلة داخل المدرسة دون اللجوء إلى القضاء. ويمكن إجراء هذا النوع من الجلسات في السجون والشركات والمؤسسات لمعالجة القضايا المماثلة التي تحدث بين الزملاء في العمل.
و”العدالة التصالحية” جزء من الممارسات التصالحية تقوم على نظرية بديلة لأساليب العدالة التقليدية، والتي غالباً ما تركز على القصاص، وتتضمن إجراء حوارات بين الضحايا وذويهم من جهة والجناة من جهة أخرى لجعلهم أقل عرضة لتكرار أفعالهم مستقبلاً. وتركز هذه العملية جمع الناس معاً لمعالجة الآثار التي ترتبت عن الجريمة وعلى احتياجات الضحايا بدلاً من التركيز على القوانين التي تم خرقها والعقوبات التي يتوجب فرضها ومعاقبة الجاني على أفعاله.
إذاً، هذا النوع من العدالة يصلح للمخالفات أو الجنح على أبعد تقدير التي يرتكبها شخص ما تجاه زميله في المدرسة أو العمل أو نتيجة خطأ غير مقصود، لكنها لا تصلح لمعالجة الجنايات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وقتل العشرات أو المئات من الناس بالأسلحة الكيميائية والغازات السامة لأن هذه الجرائم تتطلب قصد جرمي واضح لدى الجاني وتعمده بارتكاب جرائمه وهو ما فعله نظام بشار الأسد بحق الشعب السوري طيلة السنوات الماضية.
أثبتت الجولة الأخيرة للجنة الدستورية أن جميع أعضائها بما فيهم هيئة التفاوض المحسوبة على المعارضة سلموا أوراق اعتمادهم لبشار الأسد وبدؤوا يرتبون إجراءات العودة لحضن النظام بعد خيانتهم للأمانة التي طالما تشدقوا بها بأنهم يحملون تطلعات شعب مكلوم تآمرت عليه جميع الأطراف لتنتهي المأساة السورية بجلسات حوار مع مجرمي العصر مع بعض الموسيقا التراجيدية والتعاطف مع الجناة ومنحهم صكوك الغفران عما ارتكبوه من فظاعات بحق الشعب السوري.
أخيراً، يمكن القول إن هناك سياسة دولية متعمدة تتضمن اللعب بالمصلحات القانونية والسياسية الخاصة بالقضية السورية واستبدالها بمصطلحات أخرى تكون معانيها ضبابية وتحتمل الكثير من التفسيرات، بالأمس حل مصطلح المعارضة السورية بدلاً من الثورة السورية، والفصائل أو المجموعات المسلحة بدلاً من الجيش السوري الحر، وخفض التصعيد أو تخفيض الأعمال العدائية بدلاً من جرائم الحرب التي يرتكبها النظام، والأهم كان استبدال مصطلح “حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية” بدلاً من هيئة الحكم الانتقالية التي وردت في بيان جنيف عام 2012، واليوم العدالة التصالحية بدلاً من العدالة الانتقالية التي لن نراها في الوثائق الدولية حول القضية السورية، وربما لا يزال في جعبة المبعوثين الدوليين إلى سوريا الكثير من المصطلحات الأخرى التي سيغيرونها مستقبلاً وهذه أبرز إنجازاتهم على الإطلاق خاصة ديمستورا وبيدرسون.