عمار ياسر حمو, ليز موفة – سوريا على طول:
باعتباره واحداً من أسوأ مخيمات النزوح في العالم على صعيد الإمكانات كما القدرة على إمداده بالمساعدات، كان ينبغي أن يمثل افتتاح “صيدلية الأمل” في “الركبان” قصة نجاح، لاسيما وأنها يفترض أن توفر الأدوية مجاناً لسكان المخيم الصحراوي.
ففي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أطلقت “فرقة الطوارئ السورية”، ومقرها العاصمة الأميركية واشنطن، حملة تبرعات لإنشاء صيدلية في “الركبان”. لكن ذلك أثار جدلاً في المخيم وبين التجمعات المدنية العاملة فيه، لناحية التشكيك بتوزيع الصيدلية المنشأة بتبرعات للدواء مجاناً على السكان.
إذ عدا عن نفي مصادر عدة -من بينها أعضاء في الإدارة المدنية لمخيم الركبان- أي دور للصيدلية منذ الإعلان عن حملة التبرعات تلك، فإن ثمة إشكالية أخرى تتمثل في “أن المسؤول عن الصيدلية من غير ذوي الاختصاص في المجال الطبي، وهو يتفّرد في إدارتها من دون وجود لجنة تشرف على العمل فيها أو تضبطه”، كما قال مصدر من الإدارة المدنية لـ”سوريا على طول”.
رداً على ذلك، اعتبر معاذ مصطفي، المدير التنفيذي لفرقة الطوارئ السورية، الجهة المانحة لصيدلية الأمل، أن المشروع ما يزال في بداياته، “لذلك لا يمكن أن تلبي الصيدلية احتياجات كل أهالي المخيم، وبالتالي لا يمكن الإعلان عن عمليات توزيع الأدوية المجانية على نطاق واسع”. مؤكداً أيضاً في حديثه إلى “سوريا على طول” “العمل على تحسين آلية العمل في المشروع”.
في هذا السياق، “تم تشكيل لجنة لإدارة صيدلية الأمل مؤلفة من أربعة أشخاص، بينهم مسؤول طبي وأمين مستودع لإدارة عملية التوزيع وضبطها”، كما قال لـ”سوريا على طول” مصدر كان من بين القائمين على تشكيل اللجنة. وأكد ذلك المصدر من الإدارة المدنية، موضحاً أن ذلك جاء أيضاً نتيجة “تواصل شخصيات من المخيم مع الجهة المانحة”.
ويمثل الجدل حول الصيدلية أحدث تجليات الثغرات التي تضرب ملف الدعم الإنساني لقاطني “الركبان” المقدر عددهم، بحسب آخر إحصاءات الأمم المتحدة، بنحو 12 ألف مدني، مع وجود مؤشرات سابقة على وجود شبهة فساد واستغلال لحاجة المدنيين في المخيم. وقد أشار رئيس مجلس عشائر تدمر والبادية، ماهر زيد، في حديثه لـ”سوريا على طول”، إلى وجود “كثير من التجاوزات، وإطلاق مبادرات ومشاريع من أجل جمع التبرعات على حساب أهل المخيم”.
غياب الإدارة
تعود نشأة مخيم الركبان إلى نيسان/أبريل 2015، عندما فرض الأردن قيوداً صارمة على دخول السوريين من ريف حمص الشرقي عبر المعابر غير الرسمية، خشية تسلل عناصر تنظيم “داعش” الذي كان سبباً في نزوح المدنيين إلى الجنوب بهدف اللجوء إلى الأردن. وهو ما أدى إلى تجمع آلاف المدنيين في “الركبان” الذي بلغ تعداد قاطنيه في حزيران/يونيو 2017 نحو 75 ألف نسمة، إضافة إلى نازحين آخرين في منطقة الحدلات التي تم تفكيك مخيمها لاحقاً.
ومع حلول السنة السادسة على إنشاء “الركبان”، ما يزال المخيم غير مدرج على قائمة المخيمات التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وبعيداً في الوقت ذاته عن إدارة ومؤسسات الحكومة السورية المؤقتة (المعارضة). في المقابل أنشئت في المخيم إدارتان مدنيتان، هما الإدارة المدنية في مخيم الركبان، والمجلس المحلي لمخيم الركبان. لكن الجهتين تعجزان عن تلبية احتياجات سكان المخيم المعيشية والطبية.
أما الفصائل العسكرية الموجودة في منطقة الـ55، وهي منطقة عسكرية تقع تحت نفوذ فصائل الجيش الحر المدعوم من التحالف الدولي، وتضم قاعدة التنف العسكرية الأميركية، فرغم تواجدها في مخيم الركبان، إلا أن دورها في المجال الإنساني يقتصر على “التنسيق مع الأمم المتحدة عند دخول المساعدات إلى المخيم”. بحسب مصدر من جيش مغاوير الثورة، أهم الفصائل في التنف، لـ”سوريا على طول”.
وتغيب الأمم المتحدة عن لعب دور إنساني في المخيم إلا من تقديم مساعدات بشكل متقطع بتنسيق مع الهلال الأحمر السوري، كان آخرها في آب/أغسطس 2019. فيما تواصل المنظمة “دعوة جميع الأطراف لتوفير وصول إنساني آمن ومستدام ودون عوائق إلى أولئك الذين يعيشون في الركبان، وكذلك إلى جميع المحتاجين في سوريا”، كما قالت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا، دانييل مويلان، لـ”سوريا على طول”. وقد جاء في إحاطة قدمها مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية ونائب منسق الإغاثة في حالات الطوارئ، راميش راجاسينغهام، إلى مجلس الأمن في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أن الأمم المتحدة “تواصل الجهود لدعم المغادرة الطوعية وإيجاد ترتيبات مستدامة لمن بقوا”.
بيئة استغلال خصبة
الظروف المعيشية في مخيم الركبان دفع قاطنيه والقائمين عليه إلى الاعتماد على التبرعات الفردية والعائلية. وهو “ما أتاح استغلال حاجة الناس وأوجد محسوبيات في عمليات التوزيع”، بحسب عثمان الحمصي (اسم مستعار)، النازح من مدينة القريتين بريف حمص الشرقي، والمقيم في المخيم منذ العام 2015. مضيفاً لـ”سوريا على طول”: “أحياناً يتم الحديث عن تبرعات أو أنشطة داعمة لسكان المخيم لا نسمع بها إلا عبر الإعلام، كما حصل معنا في صيدلية الأمل، التي قرأت عنها في تويتر!”.
وذهب الحمصي إلى أن “عدم وجود منظمات إنسانية دولية تعمل بشفافية وبطريقة معلنة داخل المخيم، دفع بالمانحين الراغبين في دعم المخيم إلى الاعتماد على أشخاص قد يستغلون حاجة المخيم ووضعه الإنساني لصالحهم أو لصالح أقربائهم بالدرجة الأولى”. معتبراً أن “عدم الإفصاح عن حجم المساعدات أو قيمة المبالغ المرسلة وطريقة توزيعها يجعل العمل الإنساني في المخيم بيئة خصبة للاستغلال”.
لكن غياب الغطاء القانوني للعمل الإنساني في مخيم الركبان يشكل أحد أهم التحديات بالنسبة لداعمي المخيم أفراداً أو جمعيات خيرية. فعدا عن أن “جمع التبرعات وإرسالها إلى المخيم قد يجعلنا أمام مساءلة قانونية”، كما قال لـ”سوريا على طول” أبو حسن، أحد المساهمين في دعم أرامل داخل المخيم، ما “يجبرنا على التعامل مع أشخاص في المخيم لتوزيع المساعدات المخصصة للأرامل دون وجود آلية لضبط استغلال حاجة المدنيين هناك”.
وفي العام 2019، اضطر أبو حسن، المتحدر أصلاً من مدينة القريتين بريف حمص الشرقي والمقيم حالياً خارج سوريا، إلى “تغيير الشخص المنتدب لتوزيع المبالغ المالية المخصصة للأرامل والأيتام في المخيم بعدما تبين أن عدداً من المستفيدات لا يحصلن على مخصصاتهن، إذ كان الشخص يوقع نيابة عن الأرامل ويأخذ حصتهنّ”، كما قال. لافتاً إلى أنه “توقف عن إرسال الدعم لمستحقيه فترة إلى أن تم إيجاد شخص آخر يتولى عملية التوزيع”.
وبحسب ناشطة أجنبية تعمل على دعم سكان الركبان “بشكل مستقل عبر جهة اتصال داخل المخيم”، فإن “كل شيء مبني على الثقة”. إذ “يخبرني صديقي بما يجري في المخيم، وما هي الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، ومن ثم أرسل مبلغاً مالياً لتأمينها”.
بعد وصول المبلغ إلى الركبان، “يتم الاتفاق مع مهرب لشراء السلع [من مناطق النظام]، ومن ثم يتم التوزيع داخل المخيم”، كما أوضحت الناشطة لـ”سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويتها. مشيرة إلى أنها لا تتدخل بطريقة التوزيع وتترك لجهة اتصالها في المخيم حرية التوزيع.
وفيما اعتبرت الناشطة أن “كل التجارة في المخيم مبنية على السوق السوداء”، فإن الأشد سوءاً، برأيها، هو إساءة استخدام المساعدات التي تصل من الأمم المتحدة. موضحة أن “أفضل الأقمشة التي اشتراها صديقي من المهرب لتوزيعها في المخيم كان قد سرقها شبيحة النظام من مستودعات الأمم المتحدة ثم بيعت للمتاجر”. مضيفة بتهكم: “الأقمشة التي اشتريتها للركبان تحمل علامة مفوضية [الامم المتحدة لشؤون اللاجئين] واليونيسيف”.
وكان المخيم الصحراوي شهد سوابق انطوت على شبهة فساد واستغلال لحاجة الناس، سببها غياب الوصول المباشر من المنظمات الإنسانية الدولية لإدارة العملية الإنسانية هناك. إذ في تشرين الأول/أكتوبر 2016، تعرض المستشفى الألماني التابع لجيش “أحرار العشائر” لانفجار، اتُهم تنظيم داعش بتنفيذه. لكن الحادثة أثارت شكوكاً حول إمكانية أن يكون الانفجار مدبراً للتغطية عن فساد مع مزاعم عن بيع المستشفى الأدوية لسكان الركبان رغم أنها مقدمة من إحدى المنظمات الدولية.
عشائرية تمنع المساءلة أم كيدية الادعاء؟
شعور جزء من قاطني “الركبان” بوجود تجاوزات في العمل الإنساني داخل المخيم، أدى إلى فقدان ثقتهم بأي عمل إنساني غير رسمي والتشكيك به.
لكن هذا لا ينفي، في الوقت ذاته، حقيقة أن ثمة تبرعات “تصل إلى المخيم هي عبارة عن تبرعات شخصية لأقرباء وأصدقاء، وغير مخصصة في كثير من الأحيان لكل المحتاجين في المخيم”، بحسب الشاب محمد (اسم مستعار)، النازح من بلدة مهين بريف حمص الشرقي. كما إن وصول تبرعات عامة إلى أفراد في المخيم لتوزيعها، “من دون الإعلان عن حجمها يمنع تقصي الحقيقة، من مثل توكيل شخص توزيع 100 سلة غذائية لكنه وزّع 50 منها فقط”، كما أضاف لـ”سوريا على طول”.
في السياق ذاته، اعتبر المصدر من جيش مغاوير الثورة أن “الاتهامات بوجود انتهاكات في العمل الإنساني داخل المخيم لا تنفع ما لم تكن موثقة بالأدلة والإثباتات”. ورغم تأكيده وجود استغلال “في كل مخيمات العالم”، كما قال، “لكن اتهام الناس من دون أدلة مشكلة، وقد وصلتنا شكاوى أغلبها باطلة أو كيدية بين أشخاص لهم مصالح معينة”.
رغم ذلك، يؤكد المصدر من الإدارة المدنية للمخيم “تكرار استغلال المساعدات المخصصة لسكان المخيم وسوء توزيعها”، عازياً عدم ملاحقة المتجاوزين إلى أن “العلاقات والمشكلات في المخيم تأخذ طابعاً عشائرياً”، إذ إن “كل تجمع مناطقي في المخيم أو عشائري يقف إلى جانب ابن المدينة أو العشيرة حتى وإن كان مخطئاً”.
مؤخراً، وفي سبيل درء “الاتهامات الموجهة من المنظمات والجهات الداعمة بأن الفصائل العسكرية في منطقة الـ55، هي من تسيطر على المساعدات في الركبان”، أنشأ مجلس عشائر تدمر والبادية السورية، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، جهاز شرطة مدنية في المخيم، كما قال رئيس المجلس ماهر زيد.
وفيما باشر جهاز الشرطة عمله، فإن “الأولوية بالنسبة له حالياً”، وفقاً لزيد، “منع عمليات الاعتداء وإطلاق النار، والحدّ من عمليات السلب والنهب، وضبط أمن المخيم”. معتبراً أن “المخالفات في العمل الإنساني سيأتيها الدور” لاحقاً.