فيما سنة 2018 تطوي آخر أوراقها، وفيما النظام يجهّز نفسه للانقضاض على عشرات بل مئات مليارات الدولارات “الموعودة”، وفيما تصرح الولايات المتحدة عبر رئيسها ولأول مرة بأن السعودية تكفلت بتقديم “الأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا”… كشف خبير وثيق الاطلاع عن مجموعة من “الانتهاكات” و”المخالفات” التي غرق فيها أحد أهم برامج الأمم المتحدة المعنية بسوريا، لا بل بصياغة “مستقبلها”.
الخبير الذي خص “زمان الوصل” بما لديه من معلومات، بدأ من “الانتهاك” الأحدث تاريخا، والذي تمثل في الاستغناء عن خدمات نحو 20 عضوا (باحثا وخبيرا) في فريق “الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا” التابع لـ”إسكوا” (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة).
وأكد الخبير لجريدتنا أن معظم من تم الاستغناء عنهم (فصلهم بطريقة دبلوماسية عبر رفض تجديد عقودهم) هم من الخبراء السوريين، وبإيعاز من مديرة البرنامج اللبنانية “روى نصر الدين” التي وصفها بـ”بصاحبة الأجندة الطائفية والسياسية” الظاهرة، وتحدث عن ارتباطها بتيار “وئام وهاب” التي تحاول عبثا أن تبقيه بعيدا عن العيون.
ورأى الخبير أن عزل الخبراء السوريين يعني بشكل أو بآخر إفراغ “برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا” (المعروفة اختصارا باسم NAFS) من الأصوات التي كانت تحول دون تبني وجهة نظر نظام الأسد كاملة فيما يخص ملف إعادة الإعمار، وهو ملف يصل حجمه إلى مئات مليارات الدولارات، وسعى النظام -وما زال- من أجل تمريره، عبر احتواء “NAFS” والالتفاف عليها، كما سيتضح لاحقا في سياق الحديث.
*من فوق
كشف الخبير أن “خلافات” عديدة قسمت برنامج “NAFS”، وتراكمت بين “نصر الدين” من جهة والفريق السوري بقيادة “باسل كغدو”، وكان من أبرز تلك الخلافات قيام “برنامج الأجندة الوطنية” بتسليط الضوء على “السياسة الحكومية” في سوريا، وهذا ما لم يعجب مسؤولي البرنامج الكبار وفي مقدمتهم “نصر الدين” التي تريد أن تُبقي على علاقة طيبة لـ”إسكوا” وللبرنامج مع النظام، فيما يرى الخبراء السوريين أن من واجبهم المهني التعرض لأي شأن يمس مستقبل سوريا، ومن هنا كانت المعارك داخل البرنامج حامية الوطيس ومستمرة، بين من يمكن تسميتهم بـ”لوبي الأسد”، وفي مقدمتهم: المديرة السابقة “خولة مطر” (سيتم الحديث عنها)، وخلفها “منير ثابت”، وابنة بلده وطائفته “روى نصر الدين”.
ومع تسريح الخبراء السوريين، بدا الميدان وقد خلا كليا -حسب رأي الخبير- للوبي الأسد، وبدا أن هذا اللوبي مصمم على عدم الاستعانة بخبراء سوريين “يسببون له الصداع” من جديد، وهذا ما أفصح عنه على الأقل الإعلان عن فتح توظيف “بدلاء” لمن تم عزلهم، حيث أشرع باب القبول أمام شخصين فقط (تم عزل نحو 20 خبيرا).
“ |
ورغم اتهامه لـ”نصر الدين” تحديدا باتباع سياسة تفرقة واضحة والميل لنظام الأسد، فإن الخبير قال إن “نصر الدين” لا تملك الصلاحيات ولا الجرأة على اتخاذ قرار عزل جماعي (20 موظف)، وإن التعليمات بذلك عادة ما تأتي من “فوق.. فوق” مشيرا إلى المقر الرئيس للأمم المتحدة في نيويورك، ومع ذلك فإن لـ”نصر الدين” و”ثابت” يد في القرار وفي اقتراحه، والمطلعون على كواليس “إسكوا” يعرفون أن “ثابت” كان مؤخرا في زيارة إلى دمشق والتقى عددا من مسؤولي النظام، وتباحث معهم في عدة أمور.
ووصف الخبير في “نصر الدين” و”ثابت” بأنهما مجرد أداتين في مشروع دعم الأسد ونظامه، ولو لم يكونا أداتين طيعتين لتم استبعادهما، أسوة بـ”المتمردين” على سياسة الأمم المتحدة و”إسكوا” فيما يخص الملف السوري.
*فجوة بـ70 مليار دولار
شدد الخبير في حديثه لـ”زمان الوصل” إن إفراغ من الخبراء السوريين وسيطرة لوبي الأسد يعد تجاوزا خطيرا للغاية، لكن الأخطر منه هي العواقب الملموسة لهذه السيطرة والتي تخص تمرير مئات مليارات الدولارات إلى جيوب الأسد وخزائنه، تحت ستار “إعادة الإعمار” وبمباركة وتصديق من الأمم المتحدة.
وشرح الخبير هذه العواقب منوها بأنها تصل حد التواطؤ المكشوف بين الأسد من جهة، وهيئة أممية مؤتمنة على ملف ضخم بضخامة “إعادة الإعمار”، وحساس بحساسية “مستقبل سوريا”.
“الانحرافات” التي انخرطت فيها “إسكوا” حسب وصف الخبير، بدأت تطفو على السطح بدايات 2017، أي منذ تعيين “خولة مطر” نائبا للأمين التنفيذي لـ”إسكوا” ومسؤولا مباشرا عن “برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا”، خلفا لـ”عبدالله الدردري” الذي انتقل إلى البنك الدولي.
ولعل أفدح هذه التجاوزات التي ارتكبت باسم “برنامج الأجندة الوطنية”، تمثلت في إصدار البرنامج تقديرات لإعادة الإعمار، وتعميم خبر يتحدث عن حاجة سوريا لنحو 400 مليار دولار من أجل القيام بأعباء إعادة الإعمار، وهو –وللمفارقة- نفس الرقم الذي روجه بشار الأسد أواسط نيسان/إبريل 2018، قبل أن يأتي برنامج الأجندة و”إسكوا” ليؤكدانه ويثنّيا عليه، بإدارة وتوجيه مباشر من “خولة مطر” التي تربطها علاقات غير خافية مع بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم ونائبه فيصل مقداد، توطدت إبان توليها منصب ممثلة المبعوث الأممي “ديمستورا” في دمشق، والمتحدثة الرسمية باسمه.
ولفت الخبير إلى أن مكمن الخطورة والتواطؤ هنا يحمل أكثر من وجه ودلالة، وأولى هذه الدلالات إسباغ مصداقية وشرعية حقيقية على تقديرات بشار، عبر تبنيها رسميا من قبل برنامج أممي يفترض أنه مستقل وحرفي ومؤتمن على مستقبل سوريا، أما ثاني الدلالات فهو منح النظام مساحة نهب إضافية من الأموال المرصودة للإعمار تقدر بـ70 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم بجميع المقاييس.
وشرح الخبير مصدر هذه الفجوة الهائلة المقدرة بـ70 مليار، كاشفا عن اجتماع لنحو 50 خبيرا ومستشارا اقتصاديا أغلبهم سوريون (قبل عزلهم مؤخرا)، عقده برنامج الأجندة بإشراف من “إسكوا” من أجل مناقشة كلفة إعادة الإعمار في سوريا، وقد توافق أغلبية الحاضرين على رقم يقارب 320 مليار دولار، ومع ذلك فإن “إسكوا” وبتوجيهات مباشرة من “مطر” (استقالت لاحقا) ومديرة البرنامج “روى نصر الدين” تبنت رقما مغايرا تماما، ورفعت التقديرات إلى أكثر من 388 مليار دولار، دون أن يدري أحد من الخبراء من أين وكيف أتى هذا الفارق بين تقديراتهم وبين الرقم الذي تبنته “إسكوا” وعممته على الإعلام بوصفه رقما رسميا صادرا عن الأمم المتحدة.
*اللب والقشرة
هذا التجاوز الخطير على المستوى “الخارجي” سبقه تجاوز على المستوى الداخلي لبرنامج الأجندة الوطنية، تمثل في إقصاء وتحجيم عدد من الكفاءات السورية العاملة في البرنامج، والتي تشكل عماده ونواته، لصالح تعيين أو تعويم شخصيات من لبنان، تحول معها البرنامج إلى هيكل لبه لبناني وقشرته سورية، حسب توصيف الخبير (طبعا في النهاية تم إفراغ البرنامج من الخبراء السوريين عبر تطبيق خطة عزل جماعي بحقهم).
ورأى الخبير أن علامات تشويه “برنامج الأجندة الوطنية”، بدت أكثر ما بدت من خلال مواقف وتصريحات المسؤولة الفاعلة في “إسكوا”، خولة مطر، ونقصد بالتصريحات هنا ما كانت تحدث به كبار الخبراء والتنفيذيين في البرنامج، فضلا عن توجيهاتها التي راعت رضا نظام بشار الأسد، وعدم استفزازه بأي دراسات أو أرقام تشكك بروايته أو تقديراته، وهو انحياز صارخ من “مطر”، حسب الخبير، من شأنه الإطاحة بما بقي من شفافية وأهلية “إسكوا” والبرامج التابعة لها، لاسيما تلك المكرسة للملف السوري.
• “إسكوا” تقول إن اتهامها بمحاباة الأسد “غير صحيح”، وإن أرقام إعادة الإعمار صادق عليها “مجموعة واسعة من أصحاب الشأن السوريين”. |
وأعرب الخبير عن تخوفه الشديد من أن تمرر أرقام إعادة الإعمار كما أرادها بشار الأسد، وأن يعوم هذا الطاغية على نهر من الأموال، يمكّنه من إعادة إنتاج بل و”تحسين” أدوات قمعه، وإذا ما حدث هذا فستكون الأمم المتحدة و”إسكوا” شريكان أساسيان في هذه الجريمة، لأن الأسد حينها سيوجه خطابه لكل الدول التي يأمل مشاركتها في ضخ الأموال قائلا لها: هذه الأرقام هي أرقام الأمم المتحدة التي تثقون بها جميعكم.
وختم الخبير مشددا على أن أخطر ما يعترض “الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا” حاليا، هو مصادرة البرنامج الذي يفترض أن يكون ناطقا باسم السوريين ومصلحتهم، وتحويله إلى هيكل مفرغ، ثم الادعاء بأن كل ما يصدر عن البرنامج من خطط وأرقام إنما كان بتوافق السوريين، وهو خلاف الواقع الحالي حيث لا صوت في البرنامج إلا صوت الأسد وأعوانه.
*”إسكوا” ترد
عملا بأدبيات الصحافة الملزمة بأخذ رأي الطرف الآخر، نقلت “زمان الوصل” فحوى هذه الاتهامات إلى “إسكوا”، ملخصة في 3 أسئلة تتناول المحاور الرئيسة (فصل الخبراء السوريين، محاباة النظام وقمع أي صوت يناوئه، اعتماد أرقام لإعادة الإعمار توافق تلك التي طرحها بشار الأسد).
وقد رد المكتب الإعلامي في “إسكوا” على أسئلتنا، وسنورد هنا أجوبته حرفيا دون أي تعقيب أو تدخل:
س1: هناك حديث يخص امتناع “NAFS”عن تجديد عقود نحو 20 خبيرا، معظمهم سوريون، وهو ما يعني في المحصلة فصلهم من البرنامج.
ج1: لقد عمل جميع الخبراء على أساسٍ استشاري منذ انطلاقة البرنامج عام 2012 والصفة الاستشارية تخضع لقوانين في الأمم المتحدة لا يمكن تجديد العقود فيها بعد مدّة معيّنة. ويشهد البرنامج حالياً إعادة هيكلة تتيح توفير وظائف ما سوف يؤدي إلى الإفادة من طاقاتٍ كفوءة لخدمة البرنامج.
س2: هناك اتهامات لإدارة “NAFS”بمحاباة نظام بشار الأسد، والتضييق على كل صوت في البرنامج يحاول إبداء وجهة نظر لا تتوافق مع هذا النظام
غير صحيح. جميع اللقاءات التي تمّت في الإسكوا كانت تجري في جوٍّ من الحرّية المُطلَقة، والشاهد على ذلك المخرجات الموضوعية للبرنامج التي أخذت بعين الاعتبار آراء جميع الأطياف في المجتمع السوري، حيث أنّ برنامج “NAFS” هو برنامج يسعى إلى تأمين أوسع تمثيل ممكن للأطراف السوريين ولآرائهم في جميع الاجتماعات التي ترعاها الإسكوا في مساحة تسمح بتبادل الآراء بحرية وشفافية.
س3: هناك اتهامات واضحة وصريحة تخص قيام “NAFS” باعتماد رقم لإعادة إعمار سوريا، يتماشى مع أرقام النظام، رغم تحفظ عدد من خبراء البرنامج عليه ورفضهم لتبنيه.
ج3: في الواقع، إن تقديرات الخسائر في إجمالي الناتج المحلي ورأس المال المادي هي من إعداد فريق “NAFS” في الإسكوا، وقد صادق على صحتها مجموعة واسعة من أصحاب الشأن السوريين المنتمين إلى جميع الأطياف. وهي أرقام وتقديرات مبنية على حسابات قامت بها الإسكوا نظرا لعدم توافر أي أرقام رسمية.