رغم العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري، يمضي الأخير في محاولاته إنجاز بعض المشاريع العمرانية المثيرة للشكوك، وفق مراقبين، كونها جزءاً من عمليات تغيير ديموغرافي في البلاد، حيث يسعى النظام إلى تبديل معالم المناطق المحسوبة على المعارضة بحجة التطوير العقاري ومعالجة السكن العشوائي، والذي يمثل غالبية المساكن في محيط العاصمة دمشق، وهي الأماكن التي انطلقت منها الاحتجاجات ضد النظام.
ووفق خبر نشرته وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” يوم الخميس الماضي، فقد شهد مشروع “ماروتا سيتي”، الذي تنفذه محافظة دمشق منذ بداية العام الماضي في ما تعرف بالمنطقة التنظيمية الأولى (منطقة إسكان بديل)، إنجازا متقدما في المشروع الذي يعد الأكبر في سورية، وفق الوكالة.
ووفق سانا، يقع مشروع “ماروتا سيتي”، الذي يتألف من 232 مقسماً على مساحة نحو 214 هكتاراً (2.14 مليون متر مربع)، في موقع حيوي بين مزة فيلات وتنظيم كفر سوسة (تقع في الجهة الغربية الجنوبية لدمشق)، وسيضم أبراجا سكنية بارتفاعات تتراوح بين 11 و22 طابقاً، واستثمارية وتجارية بارتفاعات تصل إلى 50 طابقاً، مع مساحات واسعة من المسطحات الخضراء والحدائق والمرافق الترفيهية والمراكز التجارية والثقافية.
ويعتبر المشروع كما يقول القائمون عليه “الخطوة الأولى للمدن الذكية في سورية”، مع توفير خطوط وأنابيب الغاز بما يغطي كل متطلبات الاستعمال المنزلي والخدمي والاستثماري والتجاري والتدفئة النظيفة، مع مراكز تحكم خدمية تؤمن جميع الخدمات الحكومية والبلدية والخاصة.
وكانت حكومة النظام السوري قد أصدرت في نهاية عام 2012 مرسوماً يستهدف “تنظيم العشوائيات في دمشق، واستبدالها بمدن جديدة أبرزها (ماروتا سيتي) ومشروع آخر يطلق عليه اسم (باسيليا سيتي)”.
ومشروع باسيليا سيتي يقع في منطقة القدم بدمشق (من الأحياء الدمشقية العريقة)، ويضم أبراجا ومراكز تجارية ضخمة، وسيكون “من أهم المدن الذكية العالمية” وفق المصادر الحكومية. وقد استقطب المشروعان العديد من رجال الأعمال السوريين، أمثال مازن الترزي وسامر فوز، وفق شراكات عقدتها شركة “دمشق الشام القابضة” التابعة لمحافظة دمشق خلال الفترة الماضية مع مستثمرين، نجم عنها تأسيس 4 شركات للاستثمار في بناء مقاسم (مناطق) سكنية وتجارية بماروتا، هي “أمان دمشق”، و”المطورون”، و”ميرزا”، و”روافد دمشق”.
وحددت “الشام القابضة” سقفاً زمنياً منذ منتصف عام 2017 إلى حوالي خمس سنوات لإتمام مشروع “ماروتا سيتي”، ونحو 3 سنوات بدءاً من العام الحالي لـ”باسيليا سيتي”.
وحسب المصادر الحكومية أيضا، فإن ماروتا سيتي سيوفر نحو 110 آلاف فرصة عمل، وسيكون المشروع الاستثماري العقاري الأكبر في سورية، وهو مملوك بنسبة 30% لمحافظة دمشق و70% لأصحاب أرض المنطقة التي يقام عليها المشروع، ويأمل القائمون على المشروعين استقطاب رؤوس الأموال من الداخل والخارج لإتمامهما، برغم العقوبات الدولية المفروضة على النظام.
لكن مراقبين ومعارضين يقولون إن المشروعين يندرجان ضمن مخططات التغيير الديموغرافي لمناطق معينة في دمشق ومحيطها، خاصة بعد تحول مناطق جنوب دمشق خلال الثورة السورية إلى معاقل رئيسية لمعارضة النظام، بدءاً من المظاهرات السلمية وصولاً إلى الثورة المسلحة، ووجدها النظام فرصة لتشريد سكانها وهدم مناطقهم.
ولا تقتصر خطط النظام، التي يعتقد أن أيدي إيرانية تحرك بعضها، وفق معارضين للنظام، على جنوب دمشق، بل تشمل أيضا مناطق أخرى من العاصمة ومحيطها مثل “داريا” التي تم تهديمها وتهجير سكانها بالكامل، ولم يسمح لهم بالعودة إليها حتى الآن، فيما تشهد وجوداً إيرانياً متزايداً.
أما منطقة الرازي في حي المزة واللوان في كفرسوسة التي يقام فيهما مشروع “ماروتا سيتي”، فقد تم تشريد سكانهما وتوجيه إنذارات لهم بهدم منازلهم، وهما منطقتان شهدتا مظاهرات مناوئة للنظام في بداية الحراك الشعبي.
والمشروع الأخر “باسيليا ستي” (الاسم من اللغة السريانية ويعني الجنة)، فقد أعلن عنه في منتصف يوليو/تموز 2018، من جانب محافظة دمشق فيما يعرف بالمنطقة التنظيمية الثانية، على مساحة تصل إلى 9 ملايين متر مربع، ليشمل عدة مناطق منها شارع الثلاثين في مخيم اليرموك.
وكان رئيس النظام بشار الأسد، قد أعلن عن هاتين المنطقتين التنظيميتين في المرسوم التشريعي رقم 66 عام 2012، لتطوير ما أطلق عليه مناطق المخالفات والسكن العشوائي. وتعتبر منطقة “باسيليا سيتي” من أكبر المناطق التنظيمية على مستوى سورية.
ووصف مدير المشروع جمال يوسف في تصريح لوكالة “سانا” أخيراً، المخطط بأنه “حضاري يليق بمدينة دمشق بشكل عام ويعتبر سابقة غير موجودة على المستوى التنظيمي والمناطق العمرانية في سورية”، مشيرا إلى إنجاز أعمال الحصر والتوصيف لنحو 85% من مساحة المنطقة وتحديد الإشغالات الموجودة فيها والتي تجاوزت 25 ألف إشغال بين سكني وتجاري وصناعي.
لكن مصادر مطلعة، أكدت أن “أهالي تلك المناطق التي هي أصلا تحت سيطرة النظام، إما تم دفعهم لبيع ممتلكاتهم بأسعار بخسة، أو تم تعويضهم ببدل سكن للإيجار مقابل إخلاء منازلهم لصالح المخطط، بينما سكان المناطق التي كانت تخضع لسيطرة تنظيم داعش أو فصائل المعارضة، وهم بمئات الآلاف، لم يحظوا بهذا الامتياز، لأنهم إما مشردون نتيجة الحرب، أو جرى تهديم بيوتهم خلال العمليات العسكرية، ولم يسمح لمن تبقى منهم داخل سورية بالعودة إلى مناطقهم بحجة أنه يتم العمل على إعادة تأهيل تلك المناطق، وهي حجج باطلة على الأغلب”.
وقالت المصادر “على الأرض ليس هناك أعمال تذكر لإعادة التأهيل في مناطق المعارضة، وكثير من تلك المناطق المدمرة، لم يتم حتى رفع الأنقاض منها حتى الآن، ولم يسمح للأهالي برفعها على نفقتهم الخاصة، حيث تفرض قوات النظام طوقا أمنيا عليها، ويحتاج كل شخص يريد تفقد منزله إلى موافقات أمنية عدة، أحيانا دفع رشاوى، وطبعا دون أن يسمح للأهالي بإدخال معدات لرفع الأنقاض، أو حتى إخراج ما تبقى من متاعهم، بعد أن تم نهب معظمه على يد قوات النظام والمليشيات”.
وقد أبدى عدد من سكان منطقة “باسيليا سيتي” اعتراضهم على تقييم عقاراتهم وفق الأسعار الرائجة عام 2012، فيما تقول محافظة دمشق إنه ليس لها علاقة بالأمر وإن المرسوم 66 الصادر من قبل النظام هو الذي حدد ذلك.
وبحسب تعليقات بعض الأهالي على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد قيّمت محافظة دمشق سعر المتر في بعض العقارات بمنطقة القدم بين 30 و40 ألف ليرة فقط ( 9 دولارات و12.1 دولارا وفق سعر الصرف في السوق الحرة)، وتضمن السعر قيمة الأرض والمنزل والمزروعات، دون السماح للمواطنين بالاعتراض على القيم المحددة.
وبحسب المادة 10 من المرسوم 66، “تراعي اللجنة في تقدير قيمة العقارات الداخلة في المنطقة التنظيمية أن يكون التعويض معادلاً للقيمة الحقيقية قبل تاريخ صدور هذا المرسوم مباشرة، وأن يسقط من الحساب كل ارتفاع طرأ على الأسعار نتيجة صدور المرسوم أو المضاربات التجارية إذا كان هذا الارتفاع بالقيمة لا يبرره ارتفاع مماثل في المناطق المجاورة”.
ويحصل المالك والشاغل للمنطقة المخالفة التي صدر قرار بتنظيمها على أسهم تنظيمية في المنطقة بعد تنظيمها، إضافة إلى سكن بديل، أما إذا كان مالكاً دون إشغال فيحصل على أسهم تنظيمية فقط، فيما يحصل الشاغل فقط على سكن بديل.
ومن خلال المراحل التي تمت حتى الآن في مشروع “ماروتا سيتي”، يلاحظ أن فئة قليلة من السكان هي التي استفادت من المشروع، وقد لا تتعدى 5% وهم من الميسورين ممن يمكنهم تأمين بدائل للسكن، وتحمل نفقة الانتقال إلى مكان آخر للعيش، ريثما يتم إنجاز المشروع، وفق مراقبين، بينما عمد معظم السكان إلى البيع لأن بدل الإيجار لا يكفيهم، فاختاروا شراء بيوت في الضواحي البعيدة مثل قطنا والمعضمية وجديدة عرطوز.
كما تم حجب بدل الإيجار عن البيوت غير المسكونة، إضافة إلى التمييز بين القاطنين على أساس الولاء للنظام، حيث نص الفصل الثالث من المرسوم 66 صراحة على أن المستفيدين في الدرجة الأولى من السكن البديل الذي ستوفره لهم الجهة المنفذة، هم “أسر الشهداء والجرحى”.
ويلفت مختصون إلى أن العقود المبرمة بين الأهالي والجهة المنفذة، تمنح الأهالي صفة شاغلي العقار، بعد تنفيذه، لا مالكين له، إضافة إلى عدم تقدير قيمة أراضيهم، إذ كان التقدير لقيمة العقارات فقط. كما أنه لم يتم تحديد أية شروط جزائية على التأخير في إنجاز المشروعين، وهو ما يعطي الشركات المستثمرة هامشاً كبيراً للتملص من التزاماتها.
وبالنسبة لأصحاب البيوت المهجرين خارج سورية، يجب على هؤلاء أن يوكلوا أشخاصاً بوكالات مصدقة من الخارجية السورية، وبالتالي يجب أن يحصلوا على “موافقة أمنية”، وإلا سيتم بيع البيت “الجديد” بالمزاد العلني.
ومن الواضح أن المخططات التنظيمية الجديدة التي كانت سابقا مقيدة بقضايا قانونية بالتعويضات المالية أو بناء وحدات سكانية بديلة للسكان، تأخذ طريقها الآن إلى التنفيذ حتى قبل نهاية الحرب، لأن المناطق التي تستهدفها باتت إما خاوية أو ليس فيها كثافة سكانية كبيرة، وبالتالي لم يعد ما يقيد حرية النظام في إعادة هندسة العاصمة ومحيطها بما يتناسب مع خططه، وربما خطط ايران، للتغيير الديمغرافي القائم على أساس طائفي، فضلا عن إفادته من دروس الحرب والتي علمته ضرورة إرفاق الأبنية بشبكة طرقات ومواصلات متقدمة، وبناء مطارات جديدة لا يمكن لقوى معارضة السيطرة عليها، وفق معارضين.
كان تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” في سبتمبر/ أيلول الماضي، قد أشار إلى 5.6 ملايين شخص من الشعب السوري أصبحوا لاجئين، و6.4 ملايين نازح داخلياً.
وقدر الخسائر الاقتصادية منذ بداية الحرب بنحو 442 مليار دولار، لافتا إلى أن 82% من الأضرار تراكمت في 7 قطاعات، هي الإسكان والتعدين والأمن والنقل والصناعة التحويلية والكهرباء والصحة.