لمى أحمد: لا بدّ لأي انتقال سياسي أن يبدأ برحيل نظام الأسد وتطبيق العدالة الانتقالية

لمى أحمد: لا بدّ لأي انتقال سياسي أن يبدأ برحيل نظام الأسد وتطبيق العدالة الانتقالية

يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، الدبلوماسية السورية السابقة لمى أحمد، المتخصصة في مجال العمل الاجتماعي والإنساني، وهي تقيم حاليًا في ألمانيا، وكانت قد كتبت على جدار صفحتها في موقع (فيسبوك)، بمناسبة مرور عشر سنوات على ثورة الحرية والكرامة“أنا ممّن تجرؤوا على الحلم والأمل والكرامة.. ولهم هدمت كلّ ما كان لي، وبدأت البناء من جديد، ولستُ بوارد المساومة على هذا البناء ولا حتى بدافع اليأس”.

في هذا الحوار، تحدثت ضيفتنا عن موقفها المبكّر من ثورة شعبها منذ أيامها الأولى، وكيف أمّن الجيش الحر انشقاقها وخروجها من سورية، وتطرق الحوار إلى نظرتها اليوم إلى مكانة ودور والدها المرحوم أحمد إسكندر أحمد، وزير الإعلام الأشهر في عهد حافظ الأسد، الذي يقال عنه: “صانع أسطورة حافظ الأسد في مخيّلة السوريين”.

الأحمد شددت في سياق حديثها على أنّ الوصول إلى أي خطوة سياسية إيجابية في الوضع السوري اليوم لا بدّ من أن يبدأ عبر إعادة النظر في وجود تشكيلات المعارضة السياسية، ومساءلة شخوصها المتكررين والمتناوبين على المناصب، والإقرار بتحملهم جزءًا كبيرًا من مسؤولية فشل مهمتهم. مؤكدة أنه لا بد لأي انتقال سياسي أن يبدأ أولًا برحيل نظام الأسد، ومن ثم تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية القائمة بالضرورة على ثلاث مراحل أساسية هي: المحاسبة والمصالحة والمسامحة.

هنا نص حوارنا معها:

في منتصف آذار/ مارس، يمرّ عقد من الزمن على انطلاق الثورة السورية؛ كيف استقبلت نبأ الثورة؟ وأين كنت حينذاك؟ وهل كنت تتوقعين حدوث اندلاع احتجاجات شعبية سلمية عارمة في (سوريا الأسد)؟

كما هو معروف، سبق الاحتجاجات الأولى في سورية ثورات تونس ومصر وليبيا والبحرين. وأستطيع القول إنني -كما كثيرين- كنت قد فتنت بأصوات الناس وغنائهم وهتافاتهم للحرية في شوارع تلك البلدان، وبات توقع نزول السوريات والسوريين إلى الشارع أشبه بأمنية رومانسية، إضافة إلى أنه نتيجة منطقية لواقع مترد. اللحظات الأولى كان فيها كثير من الترقب والخوف والرغبة في إنجاز هذه الخطوة التي من شأنها أن تغير كل مجرى الحياة في سورية. وما لم يكن متوقعًا بالتأكيد هو حجم العنف والدموية الذي ستقابل به هذه الاحتجاجات، على الرغم من التاريخ الوحشي لنظام الأسد (الأب والابن) فلا أظن أنّه كان باستطاعة أي شخص سويّ في ذاك الوقت أنّ يتخيل حجم الإجرام الذي سيقابل به نظام بشار الأسد معارضيه. في ذاك الوقت، لم يكن قد مضى لي في دمشق سوى بضعة أشهر، بعد عودتي إليها من عملي الدبلوماسي في دبي، وبعد غياب عن سورية مدة خمس سنوات، وأستطيع أن أقول إنّ هذه السنوات التي سبقت الثورة كانت حاسمة في حياة السوريين، من حيث ازدياد وضوح التباين المعيشي بين الطبقة الاجتماعية الغنية والطبقة الفقيرة، وبدء الاختفاء التام للطبقة الوسطى وانحدارها المتسارع نحو الفقر.

في نهاية عام 2010، بُعيد رجوعي مع عائلتي إلى دمشق، أذكر دهشتي من الازدياد الكبير في أعداد المطاعم والمقاهي الشبابية ذات الأسعار السياحية المرتفعة جدًا، واتجاه شريحة كبيرة من الشباب نحو النزعة الاستهلاكية والمظاهر الفارهة، وتناقض ذلك مع اختفاء القدرة الشرائية حتى للسلع الأساسية اليومية لدى كثير من العائلات في الجهة المقابلة.

السخط الشعبي كان دائمًا موجودًا، ولكنه بتلك اللحظات كان يتنامى بتسارع كبير، والرادع الوحيد له بدون شك كان الخوف المتأصل وقدرة النظام على إدارة نظامه الأمني الصلب والمؤسس منذ أيام حكم الأسد الأب، وهو الأمر الذي بدأ بالتساقط، حالما رأى السوريون ما حصل بعد نزول الناس إلى الشارع في البلدان المجاورة. لا أعتقد أنّ أحدًا منا تفاجأ بالثورة، إنما الجميع انقسموا بين مَن توقّع حتمية قدومها، وبين من ما زال ينكر حدوثها إلى الآن.

الجيش الحر أمّن انشقاقي وخروجي من سورية

ما الذي دفعكِ إلى إعلان الانشقاق عن نظام بشار الأسد، بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية السلمية في سورية، ومتى كان ذلك، وكيف تمّت عملية تأمين الانشقاق التي كان من الممكن أن تكون حياتك ثمنًا لها، لو أنها فشلت؟

لم يكن العمل في الخارجية السورية بالنسبة إلي يومًا بالأمر السهل أو المريح، بالرغم من المزايا الكبيرة ومن شغفي الأساسي بالسفر وتعلّم اللغات. الفساد المنظم في هذه الوزارة -كما كل الوزارات- لا يعطيك الفرصة بالبقاء على الحياد، وحالما تحاول تحييد نفسك، عليك توقع حرب يومية قد تشمل أبسط حقوقك كموظف، وبعد بدء الثورة، كان الانقسام أكثر حدة داخل الوزارة، وكان مجرد الصمت وعدم الإشادة بقصف الجيش للمدنيين (وهو ما كنا نشهده بأعيننا يوميًا من شبابيك الوزارة المطلة على داريا وكفر سوسة ومطار المزة العسكري)، هذا وحده كان كفيلًا بوضعنا في دائرة الشك والتحقيق، وعلى الرغم من ذلك، بتنا -نحن المؤيدين للثورة- واضحين للجميع، بالرغم من الخوف والتهديد المباشر.

عند بدء الثورة، وتحديدًا بعد أحداث مدينة درعا، أذكر أنني سألتُ حينها صديقتي المقيمة في درعا عمّا حصل بالفعل: أهو تبادل لإطلاق النار كما جاء في رواية النظام أم إطلاق نار من طرف واحد؟ فأكدت لي أنّ إطلاق النار كان من طرف واحد. هذه اللحظة أستطيع أن أقول إنها من اللحظات الحاسمة في اتخاذي قرار الانشقاق أو الاستقالة كبداية. ثم توالت المجازر، وتوالى القتل اليومي. كان طريقي الواصل بين البيت والعمل يمر كل يوم من أمام داريا ومعضمية الشام، وكنا تقريبًا كل يوم نرى، ونحن بالسيارة، جثة جديدة نحاول تفاديها، ودمارًا جديد في هذه البلدات، فضلًا عن المجازر اللاحقة التي شهدناها في جوارنا في جديدة الفضل وفي جديدة عرطوز، التي عشنا كل تفاصيل المجزرة التي ارتكبت فيها، وما زالت أصوات الناس المتهاوية تحت أصوات رصاص رشاشات عناصر النظام محفورة في ذاكرتنا. كانت فكرة الانشقاق تتبلور أمامي في كل يوم، لكنها بالتأكيد لم تكن بالشيء السهل، خصوصًا أنّ أسماء الدبلوماسيين آنذاك كانت قد وضعت على الحدود، مع قرار منع السفر إلّا في حال قرار النقل إلى البعثة الخارجية، إضافة إلى أنّ عواقب هذا القرار لن تقع عليّ وحدي، وستشمل أسرتي الصغيرة: زوجي زياد، وابنتي زينة التي كان عمرها عام 2013 ست سنوات، وابني سالم، وكان عمره سنة، وستشمل أيضًا أفراد أسرتي الكبيرة الواقفة في صفّ النظام، وكانت علاقتي مع أغلبهم قد تأزمت ووصلت إلى حد القطيعة، حتى قبل حدوث الثورة في سورية، لموقفي المؤيد للثورات في البلدان العربية. لكني في النهاية تمكّنت من التواصل مع زملاء سبقوني بالانشقاق، ومن ثَم مع أفراد من الجيش الحر الذي أمّن -بعد عملية تخطيط استمرّت نحو أربعة أشهر- خروج زوجي وأولادي، ثم خروجي، من سورية، في رحلةٍ استمرت أسبوعًا، أعترف أنّ الخوض فيها بالرغم من معرفتي مخاطرها كان أقرب إلى الانتحار.

ما أودّ اليوم قوله، بعد مرور ما يقارب ثماني سنوات على قراري الذي غيّر حياتي، وإني أعتزّ جدًا باتخاذه، أنّ الانشقاق عن نظام الأسد قد يبدو لكثيرين أمرًا حتميًا ونتيجة منطقية ملزمة لكل من آمن بحقوق السوريين، وبالفعل لو أنّ الجميع ابتعد عن الأسد آنذاك، لكنّا شهدنا كتابة مغايرة للأحداث. لكن الواقع أمر مختلف تمامًا، والحقيقة أنّ تداعيات هذا القرار وعواقبه لم تكن فقط في خطورة هذه الخطوة، أو احتمال معاقبة المنشقين عبر ردات فعل النظام عليهم وعلى عائلاتهم الموجودة في سورية، حيث اضطر المنشقون أيضًا إلى تحمل أعباء إضافية أخرى، سواء من حيث التهميش الدولي المتعمد لهم، أو من تخبط وفساد وفشل القوى التي أطلقت على نفسها اسم المعارضة السورية، والتي لم تتمكن إلّا من تبني ما يشابهها من المنشقين المعروفين بتسلقهم الثورة، لمصالح وأثمان، والمعروف عنهم أيضًا قبل الثورة وجودهم ودورهم المحوري السابق في منظومة الفساد في النظام. إنّ هذه التداعيات وغيرها من أسباب الخوف كانت العامل الأكبر في تردد كثيرين وإحجامهم عن هذه الخطوة، التي ربما أصبحت بالنسبة إليهم أمرًا عبثيًا غير مرئي وغير مجد.

ما الرسالة التي حملها انشقاقك -في ذلك التوقيت من عمر الثورة- لأبناء الطائفة العلوية أولًا، وللدبلوماسيين السوريين ثانيًا، كأول دبلوماسية علوية تنشق من دمشق؟

انشقاقي كان أولًا تعبيرًا عن موقف إنساني، أؤمن به وأتصالح به مع نفسي، وكان أيضًا رسالة إلى العالم مني أنا السيدة السورية القادمة من دمشق والشاهدة على الحدث. لقد حاولت أن أوصل صوت وصورة من رأيتهم وعشت معهم، وليس فقط من يظهرون على وسائل الإعلام، ووددت القول للجميع (السوريين وغير السوريين) إنّ هذه ثورة لكل الناس، وليست لطائفة، ولا ضد طائفة، وهذا بالفعل ما تخبره كل وقائع الثورة الأولى.. اعتصام الساعة في حمص، ساحة العاصي في حماة، والأمثلة تكثر.. لقد كانت الرسالة للجميع.

أعود بك للذاكرة إلى آب/ أغسطس 2012 وأحداث مجزرتي جديدة الفضل وجديدة عرطوز، اللتين كنت شاهدة عيان على حدوثهما آنذاك. ماذا تخبرينا عنهما؟

ماذا بإمكانك أن تروي عن مجزرة.. عن أصوات الناس الخائفة قبل لحظة الإعدام.. عن رائحة الأجساد المحترقة، وعن عيون أهل القتلى والقتلة.. عن الرصيف الأحمر والغيمة الرمادية الكبيرة من غبار الحي المدمّر.. ربما اليوم أصبحت كل المجازر متشابهة، يا صديقي.

ما أصعب وأقسى المواقف التي مررت بها خلال السنوات العشر الماضية؟ وهل من مواقف معينة تركت تأثيرًا سلبيًا في ذاكرتكِ؟

بالتأكيد، لا شيء يعادل قسوة مشاهدة الجثث وأصوات القصف اليومي والمجازر، لكن ما زاد من ألم وأثر تلك الأحداث هو التصادم مع معارف أو صداقات قديمة، حول هذه البديهيات الإنسانية، واقتصار تعاطفهم الإنساني على من يماثلهم، ونفي الصفة الإنسانية عن المختلف. مرحلة ما بعد الانشقاق واللجوء كانت -بلا شك- اللحظات والأيام الأقسى، خاصة أشهر الإقامة في الكامب أو السكن المشترك للاجئين، بالرغم من أنها في الحقيقة ساعدتني كثيرًا في تفهّم ما تمرّ به العائلات السورية في المنفى، وما قد يحتاجون إليه لمساعدتهم في بناء حياتهم الجديدة، وهذا يقع اليوم في صلب عملي ونشاطي الحالي.

ثورتنا الثانية.. ثورة البحث عن الأجوبة

من موقعك اليوم، كيف تقرئين مكانة ودور والدك المرحوم أحمد إسكندر أحمد، وزير الإعلام الأشهر في عهد الأسد الأب (من 1973 وحتى 1983) الذي يقال عنه: “صانع أسطورة حافظ الأسد في مخيّلة السوريين”؟ وهل تتصورين أنه كان سيتخذ موقفك نفسه من نظام الابن الوريث؟

لقد كان لأبي -بلا شك- الأثر الواضح في تلك الحقبة كوزير للأعلام وما يعنيه هذا المنصب، ولربما أنّ المنظور الذي حمله آنذاك الوزير الشاب (29 سنة بداية عمله كوزير، 39 سنة تاريخ وفاته) مختلف عما قد نراه اليوم ونخضعه للمحاكمة. بالنسبة إلي -كابنة عاصرت والدها سنوات قليلة جدًا- ما كنت أعلم عنه كان أشبه ربما بالأسطورة وحكايا الجدات عن شابٍ عبقري متفوق قادم من بيئة متواضعة، تمكن من الدخول إلى الجامعة في عمر 14 سنة، ولفت أنظار كلّ من عرفه، وكان أصغر وزير في تاريخ سورية الحديث، وقد استطاع بالفعل أن يوجد لنفسه اسمًا واضحًا في الحكاية السورية، حتى ما بعد وفاته اليوم بما يقارب أربعين سنة.

هل كان سيستمر في منصبه مع الأسد الأب؟ أو هل كان سيقف ضد هذا الوريث؟ لا أحدَ يعلم. ما عرف عنه آنذاك هو وقوفه وتحديه المباشر لبوادر ظهور الفساد في منتصف السبعينيات، كشخص يؤمن بالاشتراكية بتطرف، وينبذ كلّ ما يوحي بالملكية الخاصة أو تجميع الثروات، حتى إنه قدّم استقالته من منصبه في عام 1979 احتجاجًا منه على تعيين حافظ الأسد لأحد الأشخاص المعروف عنهم فسادهم في ذلك الوقت، ومن ثم عاد عن الاستقالة بعد أيام، بضغطٍ من الأسد. لكن كل هذا في الحقيقة لم يجعلني أتوقف عن سؤاله في نفسي: لماذا قبل بالاستمرار كوزير حتى ما بعد سقوط أقنعة حافظ الأسد، وبدئه بترسيخ مملكته العائلية في سورية، وعبثه المستمر في سياسة المنطقة، على حساب أرواح آلاف الأبرياء، ولا سيما دوره في الحرب الأهلية اللبنانية آنذاك؟ أسئلة كثيرة أزمت علاقتي معه بالفعل (افتراضيًا)، ولكن في كل حين وآخر، وخصوصًا بعد إعلاني الانشقاق، يتصل بي أحد المعارف أو الصحفيين القدامى ممن عاصروه وعرفوه بشكل شخصي، وممن هم اليوم في موقف صريح مع الثورة السورية، ليصالحوني معه بذكرهم لما عرفوا منه ولمحبتهم له. لكن الأسئلة لديّ لا تزال قائمة.

بالرغم من مرور نحو ثماني سنوات على انشقاقك، لم تعملي ضمن أي إطار سياسي سوري معارض. لماذا اخترت أن تكوني بعيدة؟ وما الأسباب الكامنة خلف هذا القرار؟ وكيف تُسهمين في مساندة ودعم الثورة السورية من موقعك ونشاطك في المنفى الألماني؟

منذ البداية، كانت السمات الواضحة لمعظم التنظيمات التي اندرجت تحت مسمى تنظيمات المعارضة السورية تراوح -مع الأسف- بين التخبط والفوضى والفساد الموروث والابتعاد عن المأسسة، فضلًا عن أنها في معظمها كانت تبني عملها بشكل يقارب رغبات الممولين لها، وليس بما يقتضيه العمل المنظم المطلوب، حتى تكون الأداة السياسية الفعالة لنقل مطالب إنسانية عاجلة وضرورية على الأرض. لقد عجزت هذه التنظيمات -بدفع دولي غير بريء- عن أن تقنع أيًا كان بجدية وجودها وتأثيرها، وأول من فشلت بإقناعهم هم الجمهور السوري المعارض للنظام. والآن، بعد مرور عشر سنوات على ظهور هذه التنظيمات، تحولت إلى مجرد أدوات للقوى المتنافسة على الأرض السورية، ودونما تقديم أي قيمة مضافة، إنما بالعكس ما زالت عبئًا ماديًا وسياسيًا كبيرًا على كاهل الناس، حتى إن وجودها اليوم يشكّل بحد ذاته عائقًا كبيرًا للوصول إلى تحسينات في الظرف المعيشي الكارثي الذي يعيشه أغلب السوريين اليوم، إما لسوء الإدارة فيها وإما لاستنزافها لرصيد المساعدات المقدمة للسوريين، على شكل مصاريف إدارية فارغة المضمون. وبرأيي، إنّ الوصول إلى أي خطوة سياسية إيجابية في الوضع السوري اليوم لا بدّ من أن يبدأ عبر إعادة النظر في وجود هذه التشكيلات السياسية، ومساءلة شخوصها المتكررين والمتناوبين على المناصب، والإقرار بتحملهم جزءًا كبيرًا من مسؤولية فشل مهمتهم. خصوصًا أننا نتحدث عن خصم سياسي مثل النظام السوري الذي يمتلك، بالتوازي مع آلته العسكرية الوحشية على الأرض، المهارات والأدوات السياسية المؤهلة والكافية لتسويقه كطرف سياسي جدي.

بُعيد إعلاني الانشقاق عام 2013 في برلين، وعلى مدار السنوات الماضية، وُجهت إليّ دعوات عدّة للعمل ضمن تنظيمات للمعارضة، وقد حاولت بالفعل تقديم ما أستطيع من مساعدة في البداية، ولكني بعد فترة قصيرة آثرت الابتعاد، لأنّ العمل ضمن هذه التنظيمات كان، للأسباب التي ذكرتها، يستدعي الخضوع لتسويات، سواء تلك التي تتعلق بأخلاقيات العمل المؤسساتي أو ما يتعلق بالمطالب السياسية والإنسانية التي أنشئت من أجلها هذه التنظيمات. والحقيقة أنني بعد قطع كل هذه المسافة والتخلي حرفيًا عن كل شيء من أجل تجنب أي من هذه التسويات التي قد يفرضها واقع العمل مع النظام، بالتأكيد لن أقبل أي مساومة من هذا النوع ومع أي طرف كان. صحيح أنني لم أصل بعدُ إلى حلمي بتحقيق الحرية في سورية، لكني على الصعيد الشخصي أعيش اليوم بحرّيةٍ وبتماهٍ مع ما أؤمن به من قِيم، ولست في وارد التفريط بذلك. لم تكن رحلة التأسيس في ألمانيا سهلة، وكحال الجميع، كانت الخطوة الأولى والأهم هي إتقان اللغة، ثم البحث عن فرصة عمل، وبالفعل بعد سنوات من تعلم اللغة الأساسية، واللغة الاختصاصية، وإتمام أكثر من تدريب مهني، حصلت على فرصة العمل كمستشارة للشؤون السورية في البرلمان المحلي لولاية براندنبرغ. بالنسبة إليّ لم تكن هذه الوظيفة ذات الدوام الجزئي بحد ذاتها الإنجاز، بقدر ما كان مجرد دخولي إلى هذا المكان، كأول شخص من أصل سوري يحظى بتعيين داخل هذه المؤسسة، تحت هذا المسمى الوظيفي هو الأهم، لما في ذلك من اعتراف بشهاداتي وبخبراتي السابقة وعودة لي إلى سوق العمل والشعور مجددًا بالقدرة على الإنتاج. بعد مدة قصيرة من بدء عملي في البرلمان، بدأت أعمل، خلال العطلة الأسبوعية، في مشروع (الاندماج على مستوى العينين)، وهو عبارة عن سلسلة نقاشات ومحاضرات، مع مجموعة من الشبان والشابات الناطقين بالعربية من القادمين الجدد إلى ألمانيا، حول مواضيع الاندماج والهوية والحقوق الإنسانية، وأعدّ هذه التجربة أيضًا من أهم الخطوات التي قمت بها في ألمانيا، لأن نتائج هذه الحوارات فاقت بكثير توقعاتي، خصوصًا أننا تطرقنا فيها إلى مواضيع كانت دائمًا تعد الأكثر إشكالية في المجتمعات العربية إجمالًا، كموضوع حرية المرأة وحرية الرأي والاعتقاد. لقد تسنى لي عبر التعليم في هذا المشروع أن أتعرّف إلى مجموعة رائعة من الشابات والشباب الطامحين والمثابرين باستمرار لبناء حياتهم الجديدة على أسس سليمة ومتوازنة، والبعيدة قدر الإمكان عن التشوهات المفروضة على مجتمعاتنا الأصلية الواقعة تحت الاستبداد وتبعاته. من هنا، خلق لدي مفهوم جديد للأمل والبناء والتغيير الجذري الذي أحلم يومًا ما برؤيته في العقول قبل كل شيء. في الوقت الذي لا أجد فيه أي أمل يرجى من طبقة سياسية متهالكة وعقول متيبسة على تشوهاتها. أؤمن بأنّ التغيير سيبدأ من الشباب السوري الذي عانى مبكرًا ويلات الحرب، وخلق من يأسه سببًا للسؤال والشكّ في كل ما كان بديهيًا للجيل القديم. وهذه هي بنظري ستكون البداية للثورة الثانية، دعني أسميها “ثورة البحث عن الأجوبة”.

في نهاية عام 2019، انتهى عقدي مع برلمان ولاية براندبرغ مع نهاية الدورة البرلمانية، وانتهت أيضًا مدة مشروع على مستوى العينين. وأنا منذ الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أعمل مع إدارة مدينة تلتو في ألمانيا كمنسقة لمشروع يعنى بتحقيق عدالة الفرص التعليمية بين الأطفال، وضمان الخطاب التعليمي غير المنحاز، وكنت العام الماضي عضوًا في لجنة تخطيط ميزانية الاندماج لمدينة تلتو. وهذا ما أتاح لي الفرصة لرؤية أكثر قربًا وأكثر دقة لما يعنيه التأسيس للحياة الديمقراطية والعدالة، حتى لدى الأطفال من عمر السنة، وجعلني أكثر قربًا لما يحتاج إليه المجتمع اللاجئ السوري، والأهمية الكبيرة لدمج أي برامج اندماج أو رعاية للاجئين ببرامج دعم وتنمية اجتماعية، ولا سيما في ما يتعلق بحقوقهم وواجباتهم في المجتمع المضيف، وسبل بناء الارتباط والثقة المتبادلة بينهم وبين أفراد هذا المجتمع. ما حرصت عليه إلى الآن هو أن يكون الهدف الأساس من هذه البرامج بعيدًا من المعنى الشعبوي والفوقي المتداول للاندماج، بأنه عملية تهدف لتهيئة اللاجئين ورفعهم إلى ما يقارب مستوى المجتمع المضيف، وإنما لا بد من طرح الاندماج بالمعنى الاحتوائي التعاطفي له، كوسيلة أولًا للأخذ بيد القادمين الجدد لتجاوز محنة السفر، والبحث عن أسس لبناء حياة جديدة، ومن ثم إيجاد السبل لإدخال طاقاتهم الكامنة في العملية الإنتاجية الشاملة للمجتمع، كأفراد موجودين فيه ولديهم القدرة والمعرفة لتحقيق المشاركة المتوقعة منهم.

الأنظمة الشمولية المستبدة ترسخ النظام الأبوي الوصائي

ننتقل معك إلى الحديث عن الدور الذي تقومين به في ألمانيا، كناشطة في مجال تمكين النساء، وكعاملة في مجال الاندماج وبالأخص الاندماج الحساس للجندر (النوع الاجتماعي). سؤالنا: ما رؤيتك لتمكين النساء -سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا- في مجتمع اللاجئين السوريين في ألمانيا؟

أيّ نشاط أو حديث عن حقوق الإنسان، لا يتبنّى بوضوح مشكلة التميير العنصري ضد النساء، هو برأيي فاقد للمعنى، لأنّ القضايا الإنسانية ببساطة لا يمكن أن تتجزأ، ولا يمكن المطالبة بالعدالة والحقوق الإنسانية لفئة والتغاضي عنها عند فئة أخرى، وهذا بالضبط كان الدافع الأول لي لربط أي عمل لتمكين المجتمع اللاجئ ببرامج تمكين المرأة، خصوصًا أن التعامل النمطيّ -في كثير من النواحي- ما يزال يتبع النساء العربيات حتى في بلدان اللجوء، حيث يخضع في أغلبها اللاجئون عمومًا رجالًا ونساءً لهذا التنميط الواضح، وللنساء فيه -مع الأسف- الحصة الأكبر، وهذا ليس في ألمانيا فقط، وإنما قد يكون على مستوى العالم. إنّ تحليل الوضع الاجتماعي السوري الحالي -مع الأخذ بعين الاعتبار المشكلة الجندرية- يعطينا أبعادًا جديدةً لم تكن منظورة من قبل، بالرغم من أنها شديدة التأثير والفعالية في تحريك الأحداث ضمن هذا المجتمع. ومن المعروف أن الأنظمة الشمولية المستبدة ظلّت تعمل، على مدى عقود طويلة، لترسيخ النظام الأبوي الوصائي، بحيث تكون علاقة الرجل والمرأة ضمن الأسرة الصغيرة مرآةً لطبيعة علاقة الحاكم بالشعب، ويتم تثبيت أسس هذا النظام بذرائع اجتماعية وعرفية ودينية، بحيث تظهر ملامحه بوضوح سواء في التشريعات القانونية أو الدينية أو المجتمعية العرفية أو حتى باللغة الدارجة اليومية، التي تكرس فكرة أنّ المرأة ذات درجة أدنى، بالمواطنة أو بالإنسانية، بحيث يسهل حتى قتلها، تحت غطاء القانون والعرف، بحجة “الشرف”. كلّ هذا لا بدّ من الإضاءة عليه، لفهم هذا المجتمع الضيف، وإلى وقت قريب جدًا، عندما كانت تقام مشاريع لتمكين اللاجئات، كانت توقعات هذه المشاريع من اللاجئات تنحصر فقط بالقيام بالمهام المنزلية، كالطبخ والتنظيف وتربية الأولاد، من دون الأخذ بالاعتبار بأنهن قوة كامنة حقيقية ورافعة قيمية ومجتمعية. إلّا أنّ تخليص المجتمعات المضيفة من هذه الأفكار المسبقة عن اللاجئات لا يتم إلّا بتخليصهم من مجمل التنميطات التي تشمل النساء والرجال على حد سواء. ومن الواضح أنّ الرجل العربي يواجه أيضًا تحديات كبيرة هنا، لدحض اتهامات جاهزة موجهة دائمًا نحوه، قادمة من تفسيرات مغلوطة لقيم وأدوار اجتماعية فرضت عليه في بلده الأم. لذلك كانت مشاريع تمكين النساء -بالنسبة إلي- دائمًا مرتبطة بشكل مباشر بمشاريع تمكين موازية بالضرورة لمجتمع الرجال. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تحرير النساء دون أن ينال الرجال أيضًا حريتهم. وهذا يحتاج إلى شرح قيمي واضح لكليهما عن المعنى الحقيقي لحقوقهم الإنسانية، ولماذا يحتّم علينا ذلك أن ننحاز دومًا إلى هذه الحقوق عند تعارضها مع موروثات حملها المجتمع اللاجئ معه. في الوقت نفسه، لا بد من القيام بهذا الدور التوضيحي أيضًا مع المجتمع المضيف، ومن هنا جاءت فكرة سلسلة محاضرات أقيمها، بالتنسيق مع إدارة الولاية التي أعيش فيها، في مدن عدة على مدار السنة، تحت عنوان: “المرأة العربية ما بين الصورة النمطية والحقيقة”، وأحاول فيها تعريف المجتمع الألماني بالمجتمع العربي وبمجتمع النساء خاصة، بعيدًا عن الصور “الهوليوودية” أو التنميط السائد والمكرس في أوساط اليمين المتطرف في هذه البلاد.

من خلال تجربتك الشخصية، بصفتك لاجئة سورية، ما التحديات التي تواجه اليوم السيدات من الخلفيات المهاجرة/ اللاجئة غير المتجانسة للدخول إلى سوق العمل الألماني؟

تخضع النساء اللاجئات بالفعل لتحديات إضافية كبيرة، تختلف عن تلك التي تواجه مجتمع الرجال. وإضافة إلى التحدي الأكبر، وهو تعلم اللغة الألمانية التي تعدّ من أصعب اللغات في العالم، تواجه اللاجئات مستويات أخرى من الضغوط والعوائق. وهي -بحسب نتائج بحثٍ أجريته حديثًا بالتعاون مع مؤسسة “روربرت بوش” الألمانية- تبدأ بالضغوط الأسرية ضمن المجتمع اللاجئ نفسه، ولا سيما أنّ الأسرة المتمثلة بالأهل أو الزوج أو الأبناء ما تزال تمتلك سلطة وتأثيرًا قويًا على قرارات المرأة اللاجئة، وإنّ كثيرًا من الموروثات المجتمعية انتقلت من المجتمع الأم إلى المجتمع اللاجئ، بالأخص ما يتعلق بربط وتقييد حرية المرأة بالعرف المجتمعي أو الديني، وهو ما يفسر ظاهرة انتشار الجرائم ضد النساء اللاجئات، تحت ذرائع ومسميات تشابه تلك المستخدمة في البلدان الأم، مثل “جرائم الشرف”، وربما يكون هذا المثال هو المثال المتطرف لهذه النزعات، ولكن ما هو أكثر تأثيرًا وانتشارًا هو إخضاع هؤلاء النساء لعواقب وعقوبات مجتمعية قد لا تكون مرئية كجرائم القتل، لكنها أيضًا تلعب دورًا حاسمًا في قدرة النساء على اغتنام الفرص المتاحة والوصول إلى المشاركة المجتمعية والاقتصادية المتناسبة مع إمكاناتهن الفعلية.

وعلى الطرف الآخر، نجد أنّ التنميط الحاد للنساء من قبل المجتمع المضيف، بسبب انتماءاتهن العرقية، الدينية أو طريقة لباسهن (وقد تكون مفروضة عليهن أصلًا من مجتمعهم اللاجئ) يحدّ كذلك من كفاءة وجدوى العروض المقدمة لهن. على سبيل المثال، كانت في إحدى البلدات كل البرامج المعدة للنساء المهاجرات مقتصرة على بضع دورات تعليم للخياطة أو الطبخ، من دون أخذ طموحاتهن وطاقاتهن الكامنة أو حتى خلفياتهن التعليمية شديدة التفاوت، بالاعتبار. بالنسبة إلى تجربتي الشخصية بالدخول إلى سوق العمل، في البداية، لا بد لي من الاعتراف بأنّ التنميطات والتحيزات التي واجهتني كامرأة، خلال سنوات حياتي في سورية، كانت أعمق وأقسى، لأنها ببساطة كانت مستمدة من تشريعات وقوانين راسخة -مع الأسف- في المجتمع السوري، ليس أولها ولا آخرها القانون السوري الذي حرمني منح الجنسية السورية لأطفالي، لأنّ والدهم لا يحمل الجنسية السورية. في حين أنّ التحديات الكثيرة هنا كانت بالتأكيد قابلة أكثر للتغلب عليها، لأنها غير مرتبطة بتحيز منهجي بقدر ما هي مبنية على فهم خاطئ وجهل بالآخر. ولا أقول إنّ هذا الشيء سهل، وإنما مع الشرح المستمر وخلق منصات اللقاء المشترك بين المجتمعين، يمكن الوصول إلى نتائج مهمة.

بتقديرك، ما الخطوات التي ينبغي على اللاجئين السوريين من ناحية، والألمان من ناحية ثانية، اتخاذها ليكون اندماج القادمين الجدد في المجتمع المضيف مبنيًا على أسس سليمة تحقق الترابط المجتمعي الناجح؟

كخطوة أولى لبناء الحياة الجديدة في بلدان اللجوء، بعد إتقان اللغة، لا بد أولًا أن يكون هناك لقاء فكري بين هذه المجتمعات، عن طريق تجاوز حاجز الخوف من الآخر، وإعادة النظر في كل ما يُعتقد أنه من البديهيات في إطلاق الحكم على من لم يسبق لنا لقاؤه والتحدث معه. وهذا اللقاء لا بدّ من أن يتم على مستوى واحد من الاعتراف بالآخر، من الطرفين، وصولًا إلى إيجاد الأساسات التي يمكن أن تبنى عليها الثقة المتبادلة. الاندماج يقوم على جهد من الطرفين: المجتمع المضيف والمجتمع اللاجئ، ولا يمكن أبدًا تحقيقه من طرف واحد. عليهما معًا أولًا تشخيص ما بهما من تحيزات عنصرية موروثة تؤدي دومًا إلى تهيب وخوف أو حتى عدائية تجاه هذا الآخر المجهول. وبعيدًا عن فكرة التسامح مع الآخر التي تحمل في طياتها اتهامًا مبطنًا ونظرة استعلائية على ما هو مختلف؛ على أفراد هذه المجتمعات تطوير أنفسهم لتقبل الاختلاف وبناء أحكامهم على تقييمات إنسانية عادلة، ومن المهم جدًا، إدراك أنّ الهوية والثقافة والسمات الشخصية هي عوامل متغيرة مع الزمن بشكل حتمي. الإنسان يتأثر ويتغير بعلاقته مع الجار، وهذا الجار يتغيّر أيضًا بالضرورة، كنتيجة لهذه العلاقة مهما كانت طبيعتها، حتى مع اختيار العزلة سيكتسب الإنسان صفات شخصية مغايرة عن تلك التي امتلكها في الماضي. إنّ هويتي اليوم هي خلاصة تجاربي اللحظية التي عشتها إلى الآن. ولا يمكن أبدًا القول إنّ هناك ما يسمى هوية واحدة واضحة وجامدة عبر الزمن لمجموعة كبيرة من البشر في المجتمع. وكثيرًا ما يكون الحديث عن هذه الهوية الجامعة بدافع عاطفي أو لأهداف شعبوية سياسية. ومن هنا، نرى أنّ وجود الناس في مكان واحد لا يحتّم عليهم بالضرورة التماثل (الحالة القصوى من الاندماج)، وإنما يكفي أن يتقبل الأفراد بعضهم البعض، حتى نصل إلى درجة الانسجام والتعايش المرجوة. ومن جهة ثانية، فإنّ توفير البيئة المساعدة للمجتمع اللاجئ لتمكنيه من البناء الجديد هو أيضًا أمرٌ حاسم له. ومن دون تحديد طبيعة إقامة ووجود قانوني واضح المعالم للاجئين في بلد اللجوء، نكون قد حكمنا عليهم بالعيش في ظل الخوف المستمر من الترحيل، وما هو يحول دون الشعور بالاستقرار الكافي واللازم للبدء من جديد.

نظام الأسد ارتكب بحق النساء جرائم إبادة جماعية

بعض الدول الأوروبية لديها أفكار لإعادة اللاجئين السوريين إلى (سوريا الأسد)، على اعتبار أن البلاد أو بعض المناطق منها أصبحت “آمنة”، كما يروّج نظام الأسد والروس. فما هو دور الناشطين ومنظمات المجتمع المدني للحد من خطر ترحيل اللاجئين وإعادتهم إلى أحضان أجهزة النظام الأمنية؟

مع الأسف، ما تزال ورقة اللاجئين تُستخدم من قبل كثير من السياسيين حول العالم، في مساوماتهم السياسية، كورقة انتخابية أو لاكتساب شعبية ما على حساب أي منطق إنساني. وفي كثير من الدول الأوروبية اليوم، لم تعد الدعوات اليمينية الشعبوية تقتصر على الأحزاب اليمنية الواضحة بتطرفها، بل أصبح الميل إلى تبني هذا الخطاب أحد وسائل الدعاية الانتخابية لشخصيات تنتمي إلى أحزاب كبرى تاريخية، باتت تتهيب من خسارة ناخبيها لحساب اليمين المتطرف. ومثل هذا القرار كان مثار الاختلاف حتى بين أعضاء الحزب الواحد، كما الحال في الحزب المسيحي الديمقراطي، إلّا أنّ وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر المنتمي إلى الجزء البافاري لهذا الحزب، وهو معروف بمواقفه المعادية للاجئين، تمكّن من تمرير هذا القرار، وذلك بعد اعتداء لاجئ سوري بالسكين على أحد المواطنين الألمان. وبات من الواضح الآن أنّ ورقة تهديد اللاجئين السوريين بالترحيل -بالرغم من بقاء المدن السورية على قائمة أخطر وأفقر المدن في العالم- لا تزال متداولة في اللعبة السياسية.

ما يجب على ناشطي المجتمع المدني في هذه الحالة هو -بلا شكّ- رفعُ الصوت والتوجه إلى المجتمع الألماني بشكل مباشر -كلٌّ حسب موقعه- لكسب الدعم وشرح الأبعاد اللاإنسانية لمثل هذا القرار، ومن دون شك ليسوا وحدهم في هذا المسعى وعليهم البحث عن داعمين من السياسيين الألمان المؤمنين بالحقوق الإنسانية، وهم كثر. ما نفتقده طبعًا في هذا الحراك هو وجود هيئة سياسية سورية فاعلة في الدول الأوروبية لحماية حقوق اللاجئين، وهو الدور الذي كان يفترض أن تقوم به منذ سنوات الهيئات الرسمية للمعارضة السورية، التي تكتفي بالتنازع فيما بينها على المناصب والمزايا، وتقف عاجزة أو لا مبالية بهموم المجتمع اللاجئ.

كيف ترين وضعية المرأة السورية في الداخل وفي المنافي القسرية، بعد مرور عشر سنوات على اندلاع الثورة، وإلى أي مدًى استطاعت أن توصل المرأة السورية صوتها إلى العالم؟

تاريخيًا، كانت المرأة ولا تزال هي من يدفع الثمن الأكبر للاختلالات والكوارث التي تقع على المجتمعات، سواء الكوارث الطبيعية أو المصطنعة كالحروب والحكم الاستبدادي. وفي الوضع السوري، تتشارك النساء مع الرجال في التهميش والغياب سياسيًا، كون النشاط السياسي الوحيد المتاح في سورية محصورًا بالطبقة الحاكمة الضيقة، إلّا أنّ التمايز يظهر بغياب المشاركة الاجتماعية والاقتصادية الحاد للنساء السوريات، وهذه نتيجة طبيعية لتكريس النظام السوري الحاكم منذ عقود لأحكام المجتمع الأبوي.

ما بعد الثورة والحرب على المدن الثائرة، زاد واقع المرأة في سورية سوداوية، خصوصًا بعد انتهاج النظام منذ بداية الثورة لعمليات الاغتصاب المنهجي للنساء في المناطق المعارضة، وهو ما يعدّ اليوم وسيلة من وسائل الإبادة الجماعية، ولا ننسى بالتأكيد المعتقلات السوريات في سجون النظام اللواتي يتعرضن حتى ما بعد خروجهن من المعتقل لعقوبات لاحقة من مجتمعاتهن القريبة، قد تصل إلى نبذ المعتقلة وعزلها أو حتى إلى حد إنهاء حياتها من قبل أسرتها. بالنسبة إلى النساء في المناطق الخاضعة للميليشيات الإسلامية المتطرفة، كان هناك مزاودة أخرى على الحد من حريات النساء، حتى إنّ هذه الميليشيات عملت على تسويق نفسها إعلاميًا بما يشبه تنظيمات إرهابية، مثل “القاعدة” و”طالبان”، وهو طبعًا ما يتوافق ورغبات الجهات الممولة لهذه الميليشيات. والأمر اللافت أنّ معظم النساء اللواتي اخترن وعائلاتهن قرار اللجوء ربطن قرار الهرب من الحرب، بقرار البناء الجديد، الأمر الذي خلق لدى كثيرات طاقة جديدة للتحدي والاستمرار، وكسر لديهن حاجز الخوف والرهبة من الاعتماد على النفس والانفصال عن سلطة الرجل.

وبحسب إحصائيات ما قبل الثورة، كانت مشاركة النساء الاقتصادية في سورية لا تتعدى 12%، بينما وصلت مثلًا نسبة المشاركة في سوق العمل للاجئات السوريات في لبنان، في السنوات الأخيرة، إلى 25%. وبالتأكيد، إنّ حال اللاجئات في الدول الأوروبية يتفوق أيضًا على البلدان المجاورة لسورية، لأنّ هذه الأنظمة تسمح للاجئين واللاجئات بمزاولة العمل، إضافة إلى عاملٍ آخر، ربما هو الأهم، هو قدوم السيدات السوريات إلى هنا، مع توقعات وطموحات قد تفوق الواقع في بعض الأحيان. ولكن بلا شك تختبر النساء السوريات اللواتي قدمن حديثًا، ولأول مرة، معنى المساواة الإنسانية في ظل القانون، وبالرغم من كل التحديات تُثبت النساء السوريات هنا في ألمانيا قدرتهن الكبيرة جدًا على تجاوز الصعوبات للوصول إلى طموحات وأحلام باتت أخيرًا قابلة للتحقيق. لديّ أمثلة كثيرة عن سيداتٍ، أسعدني جدًا التعرف إليهن هنا في ألمانيا، وقد استطعن أن يحيين بي بذور الأمل التي كنت قد افتقدتها عند كثيرين وكثيرات غيرهن. ومن الجدير بالقول أنّ هذا الدافع للانطلاق من جديد واستثمار أسس الحياة العادلة في المجتمع السوري اللاجئ لا يتميّز به مجتمع النساء اللاجئ فحسب، بل نراه بوضوح لدى الفئة الشابة من اللاجئين عمومًا.

الواقع يُخبرنا أنّ نُخب المعارضة السورية ليست أفضل من نظام بشار الأسد، في ما يتعلق بحقوق المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية، فجميع المناصب المهمة يشغلها الرجال! فما السّبُل لإدخال الفكر النسوي على الأجسام السياسية كافة، والعمل معًا، بدلًا من تأسيس أجسام سياسية نسوية مستقلة فحسب؟

لا أرى أنّ إدخال أي تشكيل نسوي إلى هذه الهيئات سيشكل أي تغيير، ما دامت هذه التنظيمات تثبت خلل وتشوهات تنظيمية وقيمية فيها لا يمكن أبدًا البناء عليها، ما أتمناه بالفعل هو إيجاد الهيكل السياسي المعارض الحقيقي والممأسس، وأنا على يقين بوجود الكثير من الطاقات والشخوص المؤثرة من رجال ونساء سوريون وسوريات مما قد يمكن هذا الهيكل أولًا على تمثيل الحاجات الإنسانية الملحة للناس على الأرض، وثانيًا القدرة على ترجمة ما طالب به السوريون والسوريات في بداية الثورة من حرية وعدالة واحترام لحقوق الانسان. مجرد التبني الصادق لهذه القيم يعني بالضرورة المطالبة بتحقيق العدالة للنساء، إلّا أنّ هذا أولًا وآخرًا يحتاج لدعم دولي منصف.

أخيرًا، بعد ما آلت إليه أحوالنا من وهن وتشتت، ما السبل الممكنة برأيك لحدوث انتقال سياسي، وتغيير النظام، وسنّ قانون أحزاب جديد بموجب دستور جديد لسورية، وتطوير مفاهيم العمل السياسي، وأخذ حقوق الإنسان وحقوق المرأة ودورها بعين الاعتبار، بعيدًا عن التقسيمات الجندرية؟

باختصار: لا بدّ لأيّ انتقال سياسي من أن يبدأ أولًا برحيل نظام الأسد، ومن ثم تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، القائمة بالضرورة على ثلاث مراحل أساسية هي: المحاسبة والمصالحة والمسامحة. ولا بدّ من القول إنّ عملية المحاسبة لا تقتصر على شخوص نظام الأسد فحسب، ولا بدّ من أن تشمل شخصيات تسلقت اسم الثورة، وتاجرت بها، وأسهمت بشكل مباشر في استمرار وترسيخ الوضع السوري الحالي. ومن ثم يتم تهيئة الكيان التنظيمي البديل، عبر اختيارات تكنوقراطية بعيدة عن شخوص سُمّيت بالمعارضة، من رجال ونساء، ولم تكن أكثر من مندوب وناطق باسم المموّل لها. وصرنا نسمع بالفعل منذ مدة بتشكيل كيانات حزبية سياسية، بعضها وُلد مبتورًا مبنيًا على مغالطات واضحة، وبعضها الآخر حمل بالفعل سمات ووجوه جديدة ومبشرة، وبالنهاية يقاس أيّ عمل في هذه المنحى بمدى جودة المضمون السياسي المطروح من قبله، وفقًا لمعايير الطروحات الديمقراطية المتوازنة البعيدة عن المحاصصة، ووفقًا لتبني حقوق الإنسان، وأولها حقوق المرأة. ولكن ذلك يحتاج إلى إرادة دولية حقيقية نحو تحقيق السلم والعدالة في المنطقة، بعيدًا عن تقاسم المصالح ومناطق النفوذ الحاصل حاليًا، بين القوى الدولية المؤثرة في الشأن السوري، وهو ما يجعل هذا الطرح الآن على الأقلّ أقرب إلى المطالبة بـ “يوتوبيا” خيالية. لهذا أنا أؤمن أنّ الطريق الوحيد الواضح لدينا اليوم، لرسم المستقبل المأمول لسورية، يكون عبر البناء على الطاقات الموجودة في المنفى، التي نملك اليوم ميزة الوصول إليها، وزرع بذرة المعرفة والشك لديها؛ علّها تعود في يوم من الأيام لتعيد البناء على الأسس الصحيحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

القائمة