لقاء الزعيمين الروسي والأمريكي في جنيف في السادس عشر من شهر يونيو/حزيران 2021، يأتي على قاعدة حاجة بلديهما إلى تخفيف الاحتقان، ولا سيما أن الطرفين ليس في مصلحتهما تعميق التوتر، وإن بدت حاجة الأمريكيين إلى التهدئة مع الروس أكثر ضرورة في هذه المرحلة.
الروس يريدون من الأمريكيين وقف محاولاتهم لزعزعة نظامهم السياسي، وهذا يتطلب من الأمريكيين الاعتراف بالمصالح الروسية دولياً، كأن يتوقف الأمريكيون عن اللعب بنار الحديقة الخلفية للكرملين، وتحديداً ما يتعلق بأوكرانيا، أو ما يتعلق بأوضاع الدول المحسوبة على الروس في أوروبا الشرقية، أو في منطقة الشرق الأوسط.
وفق هذا السياق جاء حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “إن مستشار الأمن القومي الأمريكي (جيك سوليفان) ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، يتحدثان بلغة صريحة، مع إحساسٍ جدي بالمسؤولية في محادثات كلٍ منهما مع الروس”.
ولكن لافروف لم يقل كلّ ما لديه، فبلاده مهتمة برفع العقوبات الأمريكية والغربية عنها، والتي أنهكت الاقتصاد الروسي، وهي مهتمة أيضاً بإيجاد مربعات تفاهم ذات قيمة، حول قضايا نزاع بين البلدين، سواء في الملف الليبي أو السوري، أو ملف الاتفاق النووي مع إيران، والملف الأوكراني.
الروس يريدون أيضاً من الأمريكيين مقاربة معهم في الحل السياسي في سوريا، على قاعدة ضمانٍ حقيقي لاستثمارهم العسكري والدبلوماسي، لصالح نظام الأسد، وهذا يعني أن يقوم الأمريكيون بتخفيف العقوبات عن النظام السوري لمنع انهيار مؤسساته.
الأمريكيون من جهتهم يعتقدون أن بلادهم ليس في مصلحتها خلق بؤر توتر متعددة ومختلفة، ولهذا فهم يريدون جعل صراعاتهم في الحفاظ على ما يسمونه (مصالحهم الحيوية) صراعات تتركز على الخطر الأكبر، وفي هذه الحالة، لا تهديد جدياً لهذه المصالح غير التهديد المتنامي للعملاق الصيني.
هناك قضايا كثيرة ستجد طريقها إلى جدول أعمال القمة الروسية الأمريكية، من هذه القضايا ما يعتبره الأمريكيون هجمات سيبرانية روسية تهدّد أمنهم القومي، إضافة إلى مسائل مثل التغيّر المناخي وجائحة كورونا، إضافة إلى ملف المساعدات الإنسانية لسوريا.
لكنّ الأهم أمريكياً، والذي تريده إدارة جو بايدن، هو العمل على تحييد الدور الروسي بصورة نسبية في صراع الولايات المتحدة مع الصين، فهذا الصراع يأخذ في هذه المرحلة، وفي مراحل قادمة، أولوية سياسية أمريكية، لأن الصينيين ينهضون اقتصادياً، لدرجة تهديد المصالح الاقتصادية الأمريكية عالمياً.
إن معدل النمو الاقتصادي الصيني معدل كبير، وإن شروط هذا النمو هي غير ما عليه أمريكياً، فالصين دولة تحوز على جغرافية كبيرة، وعدد سكان كبير جداً (يبلغ عدد سكانها 1.443 مليار نسمة، ومساحة جغرافية تبلغ 9.596.960 كم2)، ونظامها السياسي نظام استطاع نقل بلاده خلال سبعين عاماً ونيف من دولة هامشية، إلى القطب الاقتصادي العالمي الثاني فعلياً.
لهذا تبدو الولايات المتحدة مستعدة لتقديم تنازلات في ملفات عديدة، منها المصالح الروسية، ومنها تنازلات محددة في الملف النووي الإيراني، إضافة إلى الحفاظ على تحالفاتها التقليدية، وتحديداً مع دول الشرق الأوسط، وفي مقدمتها تركيا الناهضة كقوة إقليمية وازنة.
ولأن إدارة بايدن هي أسيرة هذه الظروف، ولا يمكنها إغماض عينيها عن تأثيرها، فذلك بعث برسالة أمريكية غير مقصودة إلى العالم، وقرأها الروس والأتراك جيداً، هذه الرسالة تنطوي على استعداد أمريكي لتبريد جبهات التوتر مع هاتين القوتين الدوليتين. فليس من الممكن واقعياً، أن تعمد الولايات المتحدة إلى دفع بعض الدول إلى الوقوف ضدها، وهي دولٌ ذات قوة اقتصادية وعسكرية، كالتي تتوفر لدى الروس والأتراك، في سبيل مساعيها لاحتواء الصين.
هذه الرؤية السياسية دفعت السيناتور الجمهوري (بن ساسي) إلى القول: “إن الاجتماع ليس في مصلحة الرئيس بايدن، لأنه يُظهره بمظهر الضعيف”.
السيناتور الأمريكي بن ساسي لم يُرد أن يقرأ لوحة الصراع العالمية كما هي عليه الآن، وهو يعتقد أن بلاده لا تزال قادرة على إدارة كل الصراعات لمصلحتها الاستراتيجية، بصورة فرض القوة، لكنه لم يستطع تلمّس أن هذه الصراعات، إذا استمرت في حلقاتها المتعددة، تشكّل نزيفاً للقوة الأمريكية، وعلى مبدأ (الكثرة غلبت الشجاعة).
لقد كثّفت المتحدثة باسم البيت الأبيض الأمريكي (جين ساكي) جولة رئيسها بايدن إلى أوروبا بالصورة التالية، “إن رحلة بايدن إلى بريطانيا وقمة الناتو وسويسرا ستسلّط الضوء على التزام واشنطن باستعادة تحالفاتها، والعمل مع حلفائها وشركائها لمواجهة التحديات العالمية، وتأمين مصالح الولايات المتحدة بشكل أفضل”.
إن استعادة الولايات المتحدة لزخم علاقاتها بحلفائها التقليديين، في أوروبا أو في الشرق الأوسط، وتحديداً مع الأتراك، لا ينبغي أن تقوم على مصالح مؤقتة، بل على احترام صيرورة تطور هذه البلدان، على قاعدة عدم الاحتواء الأمريكي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتفعيل التحالفات بما يضمن السلام الدولي ومصالح الدول الحليفة.
إن بايدن مضطر إلى فتح صفحة علاقات جديدة مع تركيا، تلحظ مصالحها في حوض المتوسط، وحقها في الحصول على أسلحة متطورة لحماية أمنها القومي.
من مصلحة الولايات المتحدة استعادة حلفائها بصورة واضحة وشفّافة، وهذا يتطلب وقف كل السياسات التي لا تطمئن هؤلاء الحلفاء، ولعل في مقدمة هذه السياسات، وقف دعم الجهات التي تصنفها تركيا بالإرهابية، وفي مقدمتها تنظيم PKK وجماعة غولن الإرهابيين.
لقد قدمت الولايات المتحدة تنازلاً بما يخص مشروع نقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، المسمى (السيل الشمالي)، فبعد معارضتها لهذا المشروع فترة طويلة، اضطرت إلى التراجع نتيجة الحسابات الاستراتيجية للسياسة الأمريكية الجدية، وهذا خلق تفاؤلاً روسياً وألمانياً بإمكانية طرح مسائل خلافية على بساط التفاوض والحل.
إن قمة بايدن بوتين القادمة ربما ستسمح بحدوث اختراق لقضايا أخرى كالقضية السورية، وهذا يعتمد على اعتراف واشنطن بمصالح روسية في سوريا خارج بقاء نظام الأسد، بالارتكاز على تفسير سياسي متفق عليه بينهما حول القرار 2254.
كذلك سيحاول بايدن كسب الموقف الروسي لصالح اتفاق الولايات المتحدة مع إيران حول ملفها النووي، ولكن مثل هذه الاتفاقات ممكنة الحدوث إذا قدّم الأمريكيون للروس ضمانات سياسية واقتصادية ودوراً دولياً مقبولاً، وهو أمرٌ أشار إليه بوتين في خطابه أمام الاتحاد الروسي منذ أيام حيث قال: “الجهود الخارجية لاحتواء روسيا تعود إلى قرون مضت، وفي جميع الأوقات يحدث نفس الشيء، بمجرد أن تصبح روسيا أقوى يجدون ذرائع لعرقلة تطورها”.
وفق ما تقدم، هل سينهج بايدن سياسة إدارة تنازع مع روسيا وتركيا وغيرهما، أم سيعمل على إيجاد توافقات مقبولة لبلاده وللآخرين؟ هذا ما ستُظهره قمته مع بوتين وقبل ذلك مع رجب طيّب أردوغان.