• وثيقة “نصري” جسدت تلاعب النظام بالمجتمع الدولي ومنظماته، وخرقه الاستباقي لقرار مجلس الأمن.
• في نفس اليوم الذي سلم به النظام لائحة مواقعه الكيماوية، كان يتأهب لإخلاء “جمرايا”.
• اختيار اللواء 105 ليحتضن المخزون الكيماوي لم يأت عن عبث.
حصلت “زمان الوصل” على وثيقة رسمية تدين نظام بشار الأسد وتكشف تلاعبه في قضية تسليم كامل مخزونه من السلاح الكيماوي، وذلك قبل بضعة أيام من وصول خبراء أممين للبدء بخطوات نزع كيماوي النظام، تنفيذا لصفقة روسية-أمريكية جرى عقدها بين الطرفين، وتم تأطيرها في قرار أممي ملزم يحمل الرقم 2118.
الوثيقة القصيرة في محتواها، الخطيرة في مضمونها، هي كتاب صادر عن المعهد 1000 في جمرايا (ريف دمشق)، وموقعة من مديره “الدكتور محمد خالد نصري”، وموجهة إلى “المدير العام” لمركز الدراسات والبحوث العلمية.
*بسرية
تأتي الوثيقة جوابا على كتاب سابق، أمر فيه المدير العام للمركز بتسمية “رئيس لجنة الإشراف” على عملية نقل مخزون المواد الكيمائية المودعة لدى المعهد “1000” إلى مستودعات اللواء 105، وهو لواء الحرس الجمهوري الأشهر والأخطر، الذي تقوم على أكتافه مهمة حماية بشار الأسد وحراسة قصوره.
ويقترح “نصري” في وثيقته تسمية “المقدم المهندس فراس أحمد، رئيس مكتب أمن المعهد 1000″، كرئيس للجنة الإشراف على نقل المخزون الكيماوي، على أن يختار “أحمد” من “يراه مناسبا لتنفيذ مهمة النقل بالشكل الأنسب وبالسرية المطلوبة”.
هذا عن محتوى الوثيقة المدموغة بعبارة “سري للغاية”، أما عن تاريخها وتاريخ الأمر بتسمية لجنة نقل الكيماوي، ففيهما ما يكفي لتعميق إدانة نظام بشار الأسد بالاحتيال والتلاعب، واستغفال كل الدول والمنظمات والشخصيات التي انخرطت في عملية إزالة كيماوي النظام، وفي مقدمتها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية (OPCW).
أول تاريخ يلفت النظر في الوثيقة الصادرة عن “مدير المعهد 1000” هو تاريخ الأمر القاضي بتسمية “رئيس لجنة الإشراف” على نقل المخزون الكيماوي، 19 أيلول/سبتمبر 2013، وهو للمفارقة الصادمة نفس التاريخ الذي سلم فيه النظام رسميا “لائحة بمواقع إنتاج وتخزين الكيماوي” إلى “OPCW”.
أما تاريخ الوثيقة نفسها، 22 أيلول/ سبتمبر 2013، فهو يكشف عن أن النظام كان يسابق الزمن لترحيل مخزوناته الكيماوية من مكان إلى آخر، في حركة مخاتلة للجميع، إذ إن خبراء تفكيك الكيماوي لم يلبثوا أن وصلوا دمشق بعد تاريخ الوثيقة بـ8 أيام، ليباشروا خطواتهم التنفيذية.
كما جاء تاريخ الوثيقة قبل أيام من قرار لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوي يتعلق بملف كيماوي النظام، ويحذر من إخفائه أو نقله، وقد صدر هذا القرار في 27 أيلول 2013، وهو نفس اليوم الذي صدر فيه قرار مجلس الأمن 2118 الخاص بتدمير كيماوي النظام، والذي نص صراحة في إحدى فقراته على أنه “لا ينبغي لأي طرف في سوريا أن يستخدم أو يطور أو ينتج أو يمتلك أو يخزن أو يحتفظ أو ينقل أسلحة كيماوية”، كما حذر من أن انتهاك بنود القرار –أحدها أو كلها- بما في ذلك “النقل غير المصرح للأسلحة الكيماوية”، باعتباره يوجب “فرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة”، وهو الفصل الذي يجيز استخدام القوة العسكرية.
*محشورون مع “الحوجلات”
وثيقة “نصري” التي تكشف تلاعب النظام في ملف الكيماوي، تسندها شهادة حصرية قدمها لـ”زمان الوصل” أحد الأشخاص الذين شاركوا في عملية نقل المخزون من مستودعات “المعهد 100” إلى اللواء 105.
يؤكد المصدر في شهادته أن التحضير الفعلي لعملية نقل المخزون الكيماوي بدأ بتاريخ 24 أيلول/ سبتمبر وأن العملية استمرت مدة أسبوع، حيث جرى اختيار 50 عنصرا من قوات النظام، للقيام بالمهمة، استنادا إلى ولائهم الطائفي، وتحت إشراف العميد “يوسف عجيب”، ضابط أمن مركز الدراسات والبحوث العلمية، وبمشاركة المقدم فراس أحمد، ضابط أمن “المعهد 1000” الذي أتت الوثيقة على ذكره.
ويشرح المصدر كيف تم تقسيم العناصر المكلفين إلى 5 مجموعات، بواقع 10 عناصر لكل مجموعة، قبل نقلهم من منطقة برزة (شمال دمشق) إلى منطقة “جمرايا”، حيث باشر العناصر عملهم منتصف ليل اليوم التالي (25 أيلول)، فقاموا بتحميل المواد الكيماوية المخزنة في “حوجلات” ووضعها ضمن 5 شاحنات مبردة (برادات) مغلقة، وكلما امتلأت الشاحنات كان يتم تحريكها باتجاه اللواء 105، ليجري تفريغها هناك، وهكذا استمر العمل على مراحل حتى تم الانتهاء من نقل كامل المخزون المقرر.
ويشير المصدر في شهادته إلى أن العناصر المكلفين بالنقل كانوا يحشرون مع “الحوجلات” داخل نفس البرادات، وأن مكان التخزين الجديد كان عبارة عن أنفاق تحت الأرض داخل “اللواء 105”.
ويفيد المصدر عن علمه بوجود عملية موازية لنقل مخزون آخر من المعهد 2000 في منطقة برزة إلى اللواء 105.
*بيت السلطة
يقع المعهد 1000 في منطقة “جمرايا” خلف جبل قاسيون شمال غرب دمشق، وهو يتبع للفرع 410، وقد جرى إنشاؤه بالتعاون مع السوفييت في ثمانينيات القرن الماضي، وعرف المعهد بنشاطه في إجراء أبحاث لتصنيع السلاح الكيميائي.
أما اللواء 105، فهو “بيت السلطة والنفوذ العسكري” الأول على مستوى سوريا، ويكفي للدلالة على ذلك استعراض بعض أسماء الشخصيات التي تولت قيادته، مثل: باسل الأسد، بشار الأسد، مناف طلاس، طلال مخلوف (يتولى الآن منصب قائد الحرس الجمهوري في عموم سوريا).
ويقع “اللواء 105” والمعهد “1000” في منطقة واحدة تقريبا، حيث لا يفصل بينهما سوى بضعة كيلومترات، وكلاهما قريب إلى “قصر الشعب”.
ويبدو أن اختيار اللواء 105 لإخفاء المخزون الكيماوي فيه لم يكن عن عبث، إذ إن هذا الموقع العسكري يشبه في حصانته قصور بشار، ولا يمكن لأي طرف دولي أن يجرؤ على طلب زيارته فضلا عن التجول فيه وتفتيشه، وإن حصل مثل هذا الطلب فإنه سيكون مبررا للنظام من أجل إفشال عملية التفتيش الكيماوي برمتها، بحجة انتهاك السيادة والخروج عن إطار مهمة بعثة الكيماوي.
وبالمقابل فإن إخلاء “جمرايا” من المخزون الكيماوي، منح النظام هامش مناورة كبيرا للغاية، رافقه وضع المركز على لائحة “مواقع إنتاج وتخزين الكيماوي”، التي سلمها إلى “OPCW”، وهو علم يقيني أنه لايمكن أن يتهرب من إدراج هذا الموقع الذي بات نشاطه الكيماوي مكشوفا لمختلف الأطراف الدولية، وعليه قرر النظام الموافقة على تفتيشه بالتزامن مع إخلائه، ليقدم نفسه “نزيها” و”متعاونا” في المهمة، وكأنه يقول للمجتمع الدولي: ها أنا ذا قد سمحت لكم بتفتيش أهم وأشهر مواقعي، فماذا بعد؟!، توقفوا عن التشكيك بي.
ويبدو أن النظام حصد ثمار مناورته هذه سريعا، وهو ما يعكسه يومها قول أحد مسؤولي منظمة حظر السلاح الكيماوي، في تصريح يدل على غفلة أو تغافل، إنه “لا يوجد أي سبب يدعو للشك في المعلومات التي قدمتها السلطات السورية”، في إشارة إلى لائحة “مواقع إنتاج وتخزين الكيماوي” المقدمة من النظام بتاريخ 19 أيلول 2013، وهو نفس اليوم الذي قرر فيه النظام التحايل ونقل مخزون “جمرايا” الكيماوي إلى “اللواء 105”.
*تقاطع
الوثيقة والشهادة اللتان تنفرد بهما “زمان الوصل” في هذا التقرير، تتقاطعان بشكل لافت مع شهادة سبق أن قدمها قيادي كبير في الحرس الجمهوري ينتمي للطائفة العلوية مطلع 2015، كشف فيها عن أماكن سرية أخفى فيها النظام جزءا من مخزوناته الكيماوية تجنبا لتدميرها، ومنها موقع اللواء 105، منوها بأن دخول مستودعات الكيماوي فيه مقتصر على فئة قليلة من المسؤولين وكبار الضباط، ومرجحا أن تكون مستودعات “اللواء 105” هي أكبر مخزن للسلاح الكيميائي على مستوى سوريا.
وقد أكدت دراسة سابقة نشرت “زمان الوصل” أجزاء منها، أن النظام قام بإخفاء بعض من مواد ترسانته الكيميائية، ولم يقم بتسليمها، وأن ما تم إخفاؤه ونقله يشمل مواد مستوردة يصعب على النظام إنتاجها محليا، وقد حصل عليها النظام بعد العام 2010، وهي مواد أولية غير مصنعة أو نصف مصنعة، ذات قابلية للتخزين لفترات مديدة.
*قيد النظر!
تضع وثيقة “نصري” الخاصة بنقل مخزونات كيماوية.. تضع المجتمع الدولي، ولاسيما روسيا والولايات المتحدة (عرابي صفقة الكيماوي)، أمام حقيقة دامغة طال وقت تجاهلها، وتضبط بشار الأسد متلبسا بجرم التلاعب والتحايل في قضية تعد من أخطر وأعقد قضايا الملف السوري.
ففي الوقت الذي كان النظام يطلق التصريحات عن استعداده التام للتعاون في تدمير جميع مخزوناته الكيماوية، كان يعطي التوجيهات لأجهزته المعنية (مخابراتية، عسكرية، بحثية..) من أجل ممارسة أقصى درجات الخداع، وإخفاء ما يستطيعون من مواد كيماوية تهربا من تدميرها.
كما إن الوثيقة تضع “مجلس الأمن الدولي” أمام مسؤولياته في الوفاء بما أصدره في القرار 2118 بتاريخ 27 أيلول/سبتمبر 2013، وهو القرار الذي نص على إبقاء ملف الكيماوي السوري “قيد نظره (نظر المجلس) الفعلي” أي أن يبقى الملف مفتوحا وخاضعة للمراقبة الدائمة.
وقد نص قرار مجلس الأمن في إحدى فقراته على منع سوريا من “استخدام أو تطوير أو إنتاج أو امتلاك أو تخزين أسلحة كيماوية أو الاحتفاظ بها، أو نقل الأسلحة الكيماوية في شكل مباشر أو غير مباشر”، وأتبعه بفقرة أخرى تقول: “لا ينبغي لأي طرف في سوريا أن يستخدم أو يطور أو ينتج أو يمتلك أو يخزن أو يحتفظ أو ينقل أسلحة كيماوية”.
وخصص الفقرة 21 للتحذير من تبعات الخرق والتلاعب، فقال: “في حال عدم الامتثال لهذا القرار، بما في ذلك النقل غير المصرح به للأسلحة الكيماوية، أو أي استخدام للأسلحة الكيماوية من قبل أي أحد في الجمهورية العربية السورية، سيتم فرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة”.
وإن وثيقة “نصري” تثبت بالدليل القاطع أن نظام بشار الأسد خرق –وبشكل استباقي- كل هذه الفقرات جزئيا أو كليا؛ ما يستدعي من مجلس الأمن التحرك إزاء ذلك، وفاء لتعهده بإبقاء الملف الكيماوي “قيد النظر”، هذا إن لم يوجب ضرورة التعامل مع الأمر تحت “الفصل السابع”.
ورغم أن وثيقة “نصري” تسبق قرار مجلس الأمن بعدة أيام، فهي تقدم دليلا دامغا على سلوك نظام كان يخادع -بكل “جرأة”- المجتمع الدولي وحكوماته ومنظماته في عز الوقت الذي كان تحت مجهرهم المكبر بعد مجزرة الكيماوي الكبرى في غوطة دمشق، ومن البديهي أن يكون هذا النظام أكثر قدرة على المناورة والمخاتلة وأشد “جرأة” في التضليل، بعد أن اطمأن المجتمع الدولي إلى أنه سلمهم كل مخزونه الكيماوي.
Video Player
Video Player