منذ أوجدها حافظ الأسد، بَنَت منظومة الاستبداد ذاتَها على المواجهة مع مَن تحكمهم؛ فهم بالضرورة أعداء، لا يستحقون العيش إلا كما تريد؛ بيدها كل شيء، حتى مصيرهم؛ تبرمجهم كما تشاء؛ تستعبدهم كما تريد؛ تذلهم ليكونوا عبيدها؛ ترفعهم ليخدموا أغراضها؛ تُفقرهم ليتبعوها. رغم ذلك قامت ثورة سورية. حاولت المنظومة قمعها بأبشع ما عندها من إجرام وإرهاب؛ صمدت رغم كل ذلك؛ وما من حسم للأمور، لأسباب يطول ذكرها.
بعد عقد ونيّف على الاستعصاء، التقط “نظام الأسد” وداعموه وسماسرة إعادة تكريره عبارة أمريكا بأنها تريد “تغيير سلوك النظام”، لا تغييره. نشأت على الفور خطة عمل، تجنَّد لها بعض العربان ترجمةً لشغفهم في التطبيع مع إسرائيل المربَكة تجاه مصير الأسدية حَرَس حدودها الشمالية؛ وتلبية لرغبتها، تعاونوا معها بوضع الخطة بالاشتراك مع روسيا، الساعي الأساسي لإعادة تأهيل منظومة الاستبداد؛ علّها تحصل على بعض الجنى السياسي والاقتصادي مكافأة لفعلها العسكري في سورية.
تكونت عناصر الخطة من:
– إصلاحات ومحاربة فساد، والابتعاد عن إيران، و الانخراط، حتى ولو شكلياً، بالعملية السياسية، و اتخاذ بعض إجراءات “بناء ثقة” تتعلق بالمعتقلين.
من جانبه، المبعوث الدولي لسورية، “بيدرسن” التقط فكرة ابتدعها أحد مراكز البحوث القريبة من الأسدية (وتحديداً مركز كارتر)، وهي “خُطوة بخُطوة”، لتكون الإطار العامّ لإعادة التأهيل. سعى بيدرسن بدعم دولي لتسويق تلك البدعة، التي تظاهر “نظام الأسد” بعدم قبولها؛ ولكنه سارع للقيام بـ”الخُطوات” التي طُلِبت منه أعلاه:
– في “الإصلاحات ومكافحة الفساد” بدأ التضييق على أزلامه ومديري سرقاته لموارد سورية، وسحب منهم ملايين الدولارات، وكثّف آلة الدعاية والكذب بأن الحال سيكون أفضل؛ فزاد منسوب الإفقار والعوز والإذلال؛ ليصل مَن تبقى تحت سلطته من سوريين إلى قبول أي طريق لتخفيف الجحيم. أصدر جملة من القوانين والمراسيم في توسيع وبعثرة وإعادة تكريرٍ وقحٍ لقانون العقوبات مُجهِضاً أي محاولةٍ سوريّةٍ للادّعاء عليه، حامياً لمجرميه ومفسديه.
– وفي الابتعاد عن إيران، لا بد من تدبُّر إخراج المسرحية مع إيران ذاتها، بحيث تتظاهر إيران بميلها لذلك التقارب عارفة بالعمق استحالته؛ فأطلق مسؤولوها بعض تصريحات الترحيب بالتقارب مع المحيط العربي، وفي الوقت ذاته نقرأ في (قناة المنار) خبراً مفاده “محاولة لاغتيال الأسد” في “صلاة العيد”، ثم سحبته فوراً، للتظاهر بعدم ارتياحها للفصل بينهما. ومن جانبه، اشترط اقتراباً عربياً منه، ورفعاً للعقوبات الاقتصادية والمقاطعات، لتلبية طلب التباعُد عنها.
– وفي العملية السياسية استند إلى مَن هو جاهز، ولعابه يسيل للذهاب لاجتماعات الدستورية؛ حتى ولو كانت وهماً وسراباً. حتى قَبْلَ دعوة بيدرسن، كانت بعض “المعارضة” جاهزة للذهاب، وإثر إرسال الدعوة قبِلتْها فوراً ودون الرجوع لأحد.
– وفي الإجراءات “الإصلاحية”، أصدرت المنظومة جملة من القوانين حول “تجريم التعذيب”، وانتقاد “هيبة الدولة”، وأي “إساءة للدين”، أو “الدعوة للانفصال”، أو محاولة “الانقلاب على السلطة”، و”الجرائم الإلكترونية”؛ والغاية تحصين مجرميه وحماية مفسديه.
وما أن أضحت هذه الخطوات ملموسة، على الأقل إعلامياً، حتى انفجرت في وجه منظومة الاستبداد حفرة التضامن، كاشفةً واحدةً من آلاف المجازر التي ارتكبها؛ وخاصة أن مَن وراء الكشف صحيفة “الغارديان” البريطانية ذات السمعة العالمية، والتي كان صداها أكبر مما لو جاءت على لسان النيويورك تايمز أو الـ CNN؛ فما كان من منظومة الاستبداد إلا أن فتحت على عجل ورقة المعتقلين الأداة التي تأخذ بها السوريين والعالم رهينة.
لسوء طالع منظومة الاستبداد، كان تبلوُر تلك الإجراءات يتم قبل وإبّان الغزو الروسي لأوكرانيا، ووقوف تلك المنظومة مختارة أو مُجبَرة مع إجرام بوتين. وكان لذلك تأثير على الخطة المرسومة. لقد أتت في وقتٍ، والعالم يعمل على خنق روسيا وردع عدوانها على أوكرانيا؛ وما فعله الأسد تجاه الغزو لا يفعله إلا معلولٌ عقليٌّ، أو مطعونٌ أخلاقياً، أو انتحاريٌ. وتستمر روسيا ببهلوانيتها، ومكابرتها، وممارسة انفصامها، متجاهلةً سعيَ العالم لقطع أذرعها، وتغيبها عن ساحة السياسة الدولية؛ فكانت تلك الصفعة الأولى للخطة. ثم كانت الصفعة الثانية والأقوى تكشُّف حفرة التضامن؛ وها هي تأتيها الصفعة الثالثة بدعوة أمريكا مجلس الأمن لاجتماعات ثلاثة هذا الشهر حول سورية لإعادة فتح الملفات الإنسانية والكيماوية والسياسية.
ثم تأتي الصفعة الأقوى المتمثِّلة بمهزلة “العفو العامّ”، التي كانت بمثابة فضيحة حقيقية. فعندما يخرج من مقابر أحياء منظومة الاستبداد شباب بلا ذاكرة أو عقل، وآلاف من زملائهم غادروا عالمنا تحت تعذيب وحوش لا علاقة لهم بالإنسانية تصبح الفضيحة مدويّة؛ ويبتلع إعلام المنظومة وأبواقها ألسنتهم والتشدق بأن “الرئيس” أصدر مرسوم “عفو عامّ” عن المعتقلين.
والشاهد الموجع كان تلك القلوب والخواطر الكسيرة لعشرات آلاف السوريين ينتظرون بصيص أمل لرؤية مُغيَّب عنهم أو مفقود، للخروج من مقابر الأحياء في معتقل صيدنايا وغيره؛ ليُصابوا ثانية بكسر قلب وخاطر جديد وإذلال وإهانة بالانتظار لساعات طوال في الشوارع وتحت الجسور.
سيلاحق السوريون منظومة الاستبداد إلى يوم القيامة؛ فمَن قُتل ولده، أو اغتُصِبت ابنته، أو أُذِلَّ لأبسط الحاجات، أو دُمِّر سكنه، أو قضى مَن يحب ببرميل أو سلاح كيماوي، أو سلّطت عليه المنظومة “داعش”، أو عَرَفَ عمالة المنظومة لإسرائيل ودعوتها للاحتلال الروسي والإيراني؛ لن ينسى ولن يغفر، وسيلاحق المنظومة إلى أن يراها في حال أسوأ من حاله، حتى ولو حمتها قُوى الأرض.
رغم أنف إسرائيل، الحامي الأساسي للمنظومة؛ ورغم البراميل؛ ورغم التعذيب الذي أتى على أرواح عشرات آلاف السوريين في المعتقلات؛ ورغم سوخوي بوتين، و”أستانا” الجديدة، ورخاوة أمريكا، ونذالة بعض الأنظمة العربية؛ ورغم عمائم النفاق في صلاة عيد الفطر؛ ورغم عشق البعض لوظيفة “معارضة”، وإصرارهم على منح الوقت والشرعية لمنظومة الاستبداد الأسدية بالحرص على مهزلة “الدستورية”؛ فإن حفرة التضامن تلغي كل المخططات، وهي بالانتظار، وسيأخذ السوريون حقهم ويتخلصون من الوباء الأسدي، طال الزمام أم قَصُر.