يٌثبت لنا التاريخ يوماً بعد يوم أن التغيير الجذري في المجتمعات لكي ينجح ويدوم لابد له من أن يكون اصلاحيا متدرجا ويفضل من القاعدة وصولا للقمّة وبفترة زمنية تناسب ظروف وطبيعة كل مجتمع…
على سبيل المثال نجحت التحولات الديمقراطية بالغرب بعد إقصائها لسلطة الكهنوت الديني وعلى مدى أكثر من قرنين من الوصول داخل كل مجتمع إلى تثبيت نظام الدولة المدنية الحديثة والمجتمع المدني الموازي لها وإعتماد النظام الديمقراطي في الحكم والذي يتيح للشعب حكم نفسه بنفسه اولا وديمومة مبادئ العقد الإجتماعي التي تم الإتفاق عليها وتاطيرها ضمن دستور تقوم السلطة على حمايته..ولامانع من تطوير القوانين وتحديثها بما يتلاءم مع تطور حركة المجتمع…بحيث تنتهي أسباب الصراعات الداخلية العنفيّة ويتمّ التوافق على حلّها سلميا وعبر الحوار
ويقول لنا التاريخ والحاضر أن إستقرار المجتمعات الغربية نتبجة لذلك المسار الإصلاحي وعلى النقيض نرى مآلات أهمّ ثورتين حدثتا بالقرن العشرين وهما الثورة البلشفية في روسيا والثورة الإسلامية في إيران …
قادت مبادى الماركسية والاجتهادات اللينينية والستالينية الدولة والمجتمع السوفييتي إلى الإنهيار رغم إمتلاك كل أدوات القوّة المادية (إقتصادية وعسكرية وبشرية ) ومن الداخل ودون إطاق رصاصة واحدة من الأعداء او المتربّصين …
لقد طبّق الشيوعيون السوفييت مبادئ وافكار وسياسات تم فرضها من فئة قليلة بالقوة ومن الاعلى للاسفل لاتتناسب مع طبيعة الإنسان والمجتمع ولاتقبل التحديث او التطوير ..حيث كانت تلك المبادئ تُعتبر كنصوص مقدّسة لاياتيها الباطل من أمامها و لا من خلفها ..وحدث ان شاهد العالم بعد 79( وهي اقصر الإمبراطوريات عمرا بالتاربخ) من قيام التجربة الشيوعية في روسيا وأوربة من تحطّم جدار برلين وتبخّر الأحزاب الشيوعية الحاكمة وجمهورها المصطنع
وتسير الثورة الإيرانية على نهج الثورة البلشفية إلى مصيرها المحتوم وقد لاتعمّر نصف عمر جارتها الشمالية الثورة الشيوعية ..فبعد مرور 43 عاما من حكم رجال الدين الاتوقراطي وصل النظام الى جدار مسدود ليس مستبعدا تحطيمه كجدار برلين وفتح نوافذ الحرية للستار الحديدي خلفه
و يعتبر المجتمع الإيراني الشرقي مجتمعا محافظا وليس منغلقا أو متطرفا.
كان للثورة البيضاء التي قام بها الشاه محمد بهلوي في كانون ثاني 1963 والتي أحدث بها جملة (إصلاحات) إقتصادية وإجتماعية ودينية حاول بها إدخال أفكار او عادات وسلوكيات لاتمتّ ّللمجتمع الإيراني بصلة بل فرضها فجاة وبقوّة السلطة ..كان لتلك الاصلاحات و التي فشلت إقتصاديا وإجتماعيا وأدّت لتراكم نقمة شعبية هائلة إتجاهه حيث لم يدع التطور المجتمعي لياخذ مداه ويتكيٍف مع قوانين وعادات يتمّ إنتاجها من مخاض حركة المجتمع وليس ان يتم إستيرادها من الغرب المتحضر (كاي آلة حديثة) وتفرض على المجتمع…حتى إن ذلك الشاه نصح الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز بإتباع سياسته ونهجه بتحديث المجتمع الإيراني شكليا من حيث فرض التعليم المختلط في المدارس وعدم إرتداء الحجاب وإفتتاح الملاهي والنوادي الليلية ..إلى آخر تلك القشور الثقافية الغربية والتي يحرص الطغاة على تطبيقها للإدّعاء أنهم يعملون على تطوير مجتمعاتهم ..دون الإقتراب من التطوير الحقيقي عبر تطوير النظام السياسي والتخلي عن سلطاتهم المطلقة وفسادهم المريع وعدم توزيع الثروة الوطنية بالعدل او تطوير النظام التعليمي ناصحا الملك فيصل بان حكم أسرته مهدد بالزوال إذا لم يسارع إلى تحديث المجتمع السعودي المحافظ والشبيه بالمجتمع الايراني على يد ابناء الشعب السعودي نفسه …فكان رد الملك فيصل له إن تلك الإصلاحات ستودي بعرشك وليس كما تنصحني ان عدم القيام بها ستودي بعرش أبي
وكان لإنقلاب الشاه على إصلاحات محمد مصدّق خلال فترة حكمه القصيرة وتنامي النقمة الشعبية من جرّاء ثورته البيضاء أن ساهمت بإندلاع الحركة الإحتجاجية المدنية السلمية بعام 1977 وتكلّلها بسقوط النظام البهلوي بشباط من عام 1979 بعد ان أعيته كل السبل لقمعها
حكم نظام الخميني المجتمع الإيراني الحي ذو الحضارة الموغلة بالتاريخ وفق نظرية الإمام الغائب والذي إختفى عن الوجود عام 874 مبلادية ..والتمهيد لعودته ..وإعتبار المرشد الإيراني نائبا للإمام الغائب والذي هو بدور يمثّل ظلّ الله في الأرض..
وبالتالي تم إنشاء سلطة كهنوتية تستند إلى نظريات الحق الإلهي في الحكم والتي تفترض القداسة والعصمة عن الأخطاء والترفٍع عن محاسبة او حتى إنتقاد الشعب لها…وتم إقرار دستور ديني مذهبي يحاول صهر التنوع الثقافي والعرقي والديني لإلغائه او تجييره لمصلحة مشروع ولاية الفقيه العالمي
لم يرث الشعب الإيراني من هذا النظام إلا الفقر والمذلّة وتغييب الحريات العامة بل التدخّل بادق تفاصيل حياة الإنسان والأسرة وصولا إلى شكل اللباس الواجب إرتداءه للمرأة الإيرانية ويعتبر الحجاب عمليا شعارا فقط لإضفاء الشرعية الصورية على الحكم الديني القائم وفي مثل هذه الأنظمة تعتبر الشكليات أهم من المضمون…
لم يعمل النظام الإيراني على إفقار وإستعمار شعبه فقط بل بدّد جلّ موارده على نقل تجربته للخارج ودخل بصدام مع المحيط والعالم أجمع وصدق وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف قبل أن يغادر منصبه بقوله إنّ إيران لا أصدقاء لها
لم تهدأ الاعتراضات او الإحتجاجات الشعبية على النظام الإيراني منذ تولّيه للسلطة ..ولكن للحركة الإحتجاجية الأخيرة بُنيةً ومساراً وأهدافاً تختلف عن الإحتجاجات السابقة
كان للنموذج الذي تم فرضه على المجتمع من اعلى الأثر الاكبر في إندلاع الاحتجاحات الحالية .حيث لم يقبل جيل الانترنت الحالي(1994ل 2002) ماتم فرضه عليهم حيث لايستطيع النظام الديني القائم منعهم عن الإتصال بالعالم وإطلاعهم وتأثّرهم بما مايدور حولهم ..ولم تكن ايقونة مهسا أميني إلا الشرارة التاريخية لخروج المارد الإيراني من القمقم الذي حبسه بها رجال الدين ..خرج القمقم وحطّم الزجاجة
وعندما رفعت الإحتجاجات شعارات المرأة..الحرية..الحياة..فهي تعبّر عن تمرد لاديني او علماني إتجاه نظرية ولاية الفقيه الدينية التي أثبتت فشلها في الداخل الإيراني قبل غيره…
وتمتاز تلك الموجة اللادينية او العلمانية التي تعصف بنظام ولاية الفقيه بتصدّي المراة لقيادتها وبالتالي تمتاز قوى الاحتجاج التي تقودها المراة بقوة تفوق بسبعة اضعاف القوّة التي يتصدّى لها الرجال كما يرى البعض من الدارسين لتاريخ الثورات والاحتجاجات في العالم ومن الاسباب :
1– هي حركة شرعية بإمتياز لأنها تنبع من الركيزة الرئيسية للاسرة .
2– تملك المراة روح الإبتكار في أساليب المقاومة وقد راينا مثالا على ذلك إسقاط العمامة الدينية في الشوارع بحركة بسيطة ولكنها ذات رمزية عميقة…فالعمامة هي النظام
3– لايمكن إتهامها بالعنف او الإرهاب ..بل إن إستعمال العنف ضدّها يؤدي لنتائج عكسية
4– تحرّك أو تؤلّب المراة الأسرة وهي قلب اي مجتمع وتعمل على كسب التأييد من القواعد الحقيقية والرئيسية للمجتمع
و كان لافتا في السنوات الأخيرة الإفراط الشعبي في الإحتفالات بالأعياد غير الدينية والتي يرجع بعضها لماقبل الميلاد كالإحتفالات براس السنة الإيرانية (عيد النوروز) او تحطيم الملك الفارسي العظيم قورش لبابل عاطمة البابليين وغيرها من الأعياد القومية على مستوى مختلف الاقليات الإيرانية القومية
وبسبب منع السلطات الإيرانية لإجراء اي دراسة او إستفتاء محايد يتناول التوجهات العلمانية للمجتمع الإيراني ..فإنه لابد من الإشارة بإختصار لنتائج دراسة أصدرها معهد توني بلير للتغيير العالمي وتمكّن من إستفتاء شربحة واسعة من الشعب الإيراني و تم نشره على موقع إيران إنترناشيونال..حيث أكّد المعهد ان غالبية المجتمع الإيراني رجالا ونساء يعارضون الحجاب الإلزامي ..كما تؤكّد نتائج الدراسة ايضا انّ الإحتجاجات ضد الحجاب الإلزامي في إيران هي وسيلة وليست غاية..وغايتها إسقاط النظام
ونشر المعهد بالتعاون مع معهد “كمان” لإستطلاعات الرأي نتائج ابحاثه المتعلقة بالعامين ماقبل الإنتفاضة الشعبية الايرانية الحالية وتظهر النتائج ان الشباب ليسوا المجموعة الوحيدة ضد الحجاب الإلزامي بل إن 74% من الأشخاص التي تزيد أعمارهم عن 50 عاما يعارضون الحجاب الإلزامي..وبحسب التقرير فإن معظم الرجال الإيرانيين يدعمون المراة ويعارضون الحجاب الإلزامي وعلى هذا الاساس فإن 70% من الرجال و74% من النساء يعارضون الحجاب الالزامي.
وأكّد معهد “توني بلير للتغيير العالمي” ان الحركة الإحتجاجية المناهضة للنظام في إيران هي عَلمانية أساسا ..وانّ 76% من الإيرانيين الذين يريدون تغيير النظام يعتبرون الدين غير مهمّ في حياتهم
وجاء في نتائج البحث ان المجتمع الإيراني لم يعد مجتمعا دينيا..وهناك علمانية غير مسبوقة حدثت في شوارع إيران الأمر الذي يؤدي إلى تقليص الفجوة بين الريف والمدينة
واظهرت النتائج ان 26% فقط من سكّان إيران يؤدّون الصلاة اليومية وتزداد هذه النسبة إلى 33% بين سكان الريف في إيران
وأعلن المعهد انه من خلال تقديم نتائج إستطلاعات الراي..يمكن لصانعي القرار الغربيين ان يدركوا أن الأحداث الآن في إيران اليوم هي أكبر من حدث عابر..بل هي إستمرار لعملية مناهضة للنظام تشمل جميع أقسام المجتمع
وقبل عامين اظهرت نتائج إستطلاع راي أجراه مركز “كمان ” أن نحو نصف المواطنين الإيرانيين تحولوا من التدين للإلحاد ..وأن 32% فقط من الإيرانيبن يعتبرون انفسهم مسلمين شيعة
وتظهر نتائج إستطلاعات الرأي ان 78% من الإيرانيبن يؤمنون بالله..ولكن 26% فقط يعتقدون بظهور “المهدي المنتظر” وهو أحد المعتقدات الرئيسية لدى الشيعة الإثنا عشرية.