كان قتل قاسم سليماني أيقونة مشروع التمدّد الإيراني عسكرياً في الخارج إيذانا بنهاية مرحلة التخادم الأمريكي مع إيران، فقد كان حدثا غير متوقع وتغيير جذري بقواعد الاشتباك، بل وأن تتبنّاه الولايات المتحدة علناً وعلى رؤوس الأشهاد فإنه يدلّ على استفاقة الولايات المتحدة من غفوة استراتيجية استمرت منذ 2001 تاريخ الهجوم على قلب الولايات المتحدة الأمريكية من قبل تنظيم القاعدة.
تلك الغفوة أو التيه الاستراتيجي الأمريكي الذي وضع محاربة الإرهاب (السني) على سُلّم أولوياته. فكان لابد لتحقيق ذلك من التخادم مع الإرهاب الشيعي عدّوه النوعي، فحصل غزو لأفغانستان والعراق وتدمير أهم الحصون المعادية لنظام الملالي.
وتمثّلت ذروة التخادم الأمريكي الإيراني بعد اندلاع ثورات الربيع العربي حيث تَمّ غضّ الطرف عن تمدد إيراني وصل لذروته بالسيطرة على أربع عواصم عربية مع غزّة، وحينها كان الرئيس الأسبق باراك اوباما يُعدّ العدّة للتوقيع على الاتفاق النووي مع إيران بحيث تَمّت مقايضة وقف البرنامج النووي العسكري مقابل عدم ممانعة التمدد الإقليمي الإيراني.
بالطبع كانت سورية أهمّ حلقات المشروع الإيراني، الذي يتيح ربط أجزاء المشروع مع بعضها بعضاً ويؤمن إطلالة لإيران على البحر الأبيض المتوسط.
وكان أن تمكّنت ميليشيا الحشد الشعبي (الشيعي) في العراق من التحالف مع الولايات المتحدة، التي أنشأت تحالفاً دولياً لمحاربة داعش (الإرهاب السني)، تمكّنت من خلاله الميليشيا العراقية التابعة لفيلق القدس من السيطرة التامة على غرب وشمال العراق (السني) وصولاً لحدود البوكمال، فيما كانت الولايات المتحدة وتحالفها الدولي نفسه يحارب تنظيم داعش في الشمال الشرقي لسورية شرق نهر الفرات.
وقامت الميليشيا التابعة لقاسم سليماني وقوات نظام الأسد بالتمدد غربي نهر الفرات بمؤازرة سلاح الجو الروسي إلى أن وصلت إلى البوكمال وتم التلاقي مع الميليشيا العراقية وبالتالي ربط محور إيران الإقليمي برياً عبر منفذ البوكمال.
حاربت الميليشيا التابعة لفيلق القدس في العراق تحت غطاء جوي أمريكي فيما نفس الميليشيا حاربت في سورية تحت غطاء جوي روسي، وكانت حرارة لقاءات كيري – لافروف المتكررة والودية التي يطفو على مشهدها الابتسامات والوشوشات، تشي بذروة التفاهم الأمريكي – الروسي في الملف السوري في تلك المرحلة.
إلا أن الاستراتيجية الأمريكية احتفظت لنفسها بخيار قطع المحور الإيراني عندما يكون من مصلحتها ذلك بالتموضع القوي غرب الفرات على بعد مئات الأمتار عن البوكمال شمالاً وعبر قاعدة التنف جنوباً التي أنشأها التحالف الدولي على مثلث الحدود العراقية السورية الأردنية.
لا يعتبر الغرب إيران عدواً عضوياً، له بل كان يسعى لتوظيف مشروعها لخدمة أغراضه واحتوائها ويُقدّم لها تسهيلات غير مباشرة، وكان نظام الملالي، البديل الأقل سوءاً له بعد تعذّر الحفاظ على حليفه الشاه.
العدو الحقيقي للغرب هو روسيا البوتينية التوسعية والعدوانية، التي ترى نفسها أهلاً لمنافسة الولايات المتحدة على التفرّد بالقرار الدولي، لذلك كان حريصاً على منع وقوع نظام الملالي في الأحضان الروسية، ولكنّه لم يفلح في ذلك وحصل العكس، حيث بات التعاون بين المشروعين المتشابهين الروسي والايراني عصيّ على التفكيك وأخذ مناحي عسكرية تزداد عُمقاً، فكان الحرس الثوري الإيراني هو الحليف شبه الوحيد للجيش الروسي عملياً في الحرب على أوكرانيا، وباتت طائراته المسيرة وصواريخه تقصف في قلب أوربا وفي جهة معاكسة للأمريكان والإنجليز والفرنسيين والألمان (الدول الأربعة الشريكة في الاتفاق النووي البائد).
وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا باتت التفاهمات الروسية – الأمريكية السابقة لتاريخ 24 شباط 2022 في خبر كان، ومنها بالطبع التفاهمات حول سورية التي كانت قائمة حتى ولو بالحد الأدنى، كالتفاهم على تجميد الصراع وإدخال المساعدات الإنسانية، وبالطبع كانت قنوات الاتصال المباشرة فعّالة لمنع الاحتكاك المباشر بين القوات وتنسيق الطلعات الجوية.
بعد الرابع والعشرين من شباط الماضي أصبح كل ذلك من الماضي وتمّ قطع كل أشكال الاتصال الأمريكي مع الروس باستثناء قناة ضيقة وضعيفة للضرورات القصوى.
كان بشار الأسد بالطبع، أحد الأدوات الروسية/الإيرانية الذي سيتقرر مستقبله نتيجة الصراع الدائر الآن مع المحور الغربي.
تَوقّع بعضهم أن تحدث بعض الأعمال العسكرية الأمريكية في سورية لتطبيق استراتيجية تم وضعها لإخراج الروس من كل قواعدهم في الخارج، والعمل على استنزاف جهودهم ومواردهم أكثر، لكن ذلك لم يحدث ورغب الأمريكان بتهدئة الحالة السورية طالما أنّ الروس يخسرون في أوكرانيا بل يُنكّل بهم هناك، فلا داعي لهزيمتهم في سورية واستفزازهم في هذا الوقت.
بعد هزيمة داعش، رأى بعضهم أن الأولويات الاستراتيجية الأمريكية بدأت بالتغيّر والخروج من صدمة 11 أيلول 2001، حيث تَمّت هزيمة الإرهاب السني شرّ هزيمة ولم يَعد مِن ضرورة لوجود الإرهاب الشيعي الذي بدا كالشيطان الذي خرج من القمقم ويصعب ضبطه، ولابد من إخراجه من العواصم التي تمدّد إليها بعد إضعافه، والتفرّغ أو التركيز على الخطرين الروسي والصيني اللذين تمدّدا كثيراً في ذروة انشغال الولايات المتحدة بالحرب على الإرهاب الجهادي السني.
بدأت أولى الخطوات من عند الرئيس ترامب، فقد ألغى الاتفاق النووي مع إيران من جانب واحد في أيار 2018، وأتبعه في خريف العام نفسه بإلغاء معاهدة هامة مع الاتحاد الروسي بالحد من انتشار الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، وبذلك ألغى الاتفاقين اللذين يجعلان من إيران وروسيا ندّين للولايات المتحدة تُبرم معهما اتفاقيات، بشكل أصبحت كل الاحتمالات مفتوحة وليست تلك الاتفاقيات من تقيّد الأيدي الأمريكية.
ثم كان مقتل سليماني وفخري زادة خلال العام 2020 نجمي المشروع الإيراني (النووي والإقليمي).
ويرى بعضهم أنّ خيارات الحرس الثوري الإيراني كانت من أطلق رصاصة الرحمة على مسار التخادم الأمريكي – الإيراني والذي كما أشرنا بدت ملامحه واضحة وجليّة حيث يحكم الرئيس بايدن منذ سنتين بسياسة الرئيس ترامب ونقاط بومبيبو الـ 12، ولم تتغير العلاقة مع إيران بل أخذت مناحي تصعيدية أكثر.
لم يرغب الحرس الثوري بالاتفاق النووي مع الولايات المتحدة لإدراكه أن ما كان سارياً في العقدين الماضيين للقرن الواحد والعشرين لن يَصلح للعقد الثالث منه وخاصة بعد تغيّر المعادلات الدولية باقتحام الجيش الروسي لأراضي دولة أوربية.
فعمل الحرس الثوري على وضع العقبات بوجه أي اتفاق سيخدم الغرب أكثر من إيران، وعملياً فشلت المفاوضات حتى قبل اندلاع الاحتجاجات الإيرانية الداخلية وقبل ظهور الانحياز العسكري الإيراني الفاضح إلى الجانب الروسي.
باتت الولايات المتحدة والتحالف الغربي يعملان باتجاه هزيمة المحور الروسي – الإيراني، فاستنزاف الجيش الروسي والاقتصاد يسير في أوكرانيا وفق ما هو مرسوم له.
وعلى صعيد نظام الملالي الذي تُنهكه الاحتجاجات الداخلية والعقوبات المتلاحقة التي تُفرض عليه، تقود الولايات المتحدة الآن الصراع مع إيران عبر السعي لفرض حظر نفطي كامل على صادرات النفط الإيرانية، التي تمّ في عهد الرئيس بايدن غضّ الطرف عنها، وخاصة بعد حرب الطاقة التي رافقت الغزو الروسي لأوكرانيا وحذّرت الصين من استجرار النفط الإيراني..
بالمقابل يعمل البنك المركزي الفيدرالي على منع تهريب الدولار من العراق لإيران عبر إجراءات صارمة بدأت تُؤتي أُكلها سريعاً بانخفاض متزامن للريال الإيراني والدينار العراقي والليرتين السورية واللبنانية.
ووصل الأمر بحسن نصر الله للتسوّل من المملكة العربية السعودية والخليج عموماً لمساعدة لبنان، لأن لبنان يستحق أن يعامل مثل كريستيانو رونالدو، الذي أنفق ناد رياضي سعودي مبالغ طائلة للحصول على خدماته.
بمعنى بدأنا نلمس بدايات لتداع مالي خطير وسيزداد عُمقاً لما تسميه إيران محورها الإقليمي
تحالف دولي ضد عصابة الأسد
في ظِلّ الصراع الدولي القائم وساحاته الإقليمية تبدو الساحة السورية الأكثر جذباً لتداعيات ذلك الصراع، إذ تُشكّل سورية بموقعها الاستراتيجي الفريد وهشاشة وضعها الداخلي ووجود كل القوى المتصارعة دولياً على الأرض.
فلابد من بتر الذراع الروسية على الضفة الشرقية للمتوسط أولاً، ولإضعاف إيران لابد من فصل محورها الإقليمي عن بعضه جغرافياً وقطع الطريق البري بين طهران والبحر الأبيض المتوسط وعزل ميليشياتها في سورية ولبنان عن العراق وإيران ثانياً.
وبرز بتداعيات الحرب في أوكرانيا طريق خطير يُتيح لموسكو التهرّب والتحايل على العقوبات الغربية، إذ إنّ محور إيران الإقليمي الذي يربط بين بحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط من الضروري قطعه.
ليس صعباً قطع ذلك الطريق المار من مدينة البوكمال السورية ولكن الأهم هو إسقاط نظام الأسد وتغيير بنية النظام السوري في دمشق عميقاً باستئصال العصابة المتحكمة بقراره.
لذلك يربط مُراقبون بين صدور قانون كبتاغون – الأسد في هذا التوقيت وبين الاستراتيجية الأمريكية والغربية في العالم والإقليم.
ولقانون الكبتاغون الأخير مضامين تشير إلى الغاية من صدوره، فقد أشار لعصابة الأسد وشخصه بكل صراحة ووضوح وفصلهم عن النظام السوري أو الحكومة السورية أو القيادة السورية.
وصدر عن مجلسي الكونغرس الأمريكي وتم إقراره كقانون للدولة الأمريكية تُلزم أي إدارة موجودة في البيت الأبيض بتطبيقه، وجرى الآن إمهال الإدارة الأمريكية مُهلة ستة أشهر كحد أقصى لتقديم خُطتها لتنفيذه، وهو قانون يختلف عن قانون قيصر الذي يتناول شأناً سورياً محضاً بل للقانون الجديد أبعاد إقليمية ودولية ولا تخصّ سورية فحسب، حيث تُشكّل المخدرات التي يُصنّعها نظام الأسد ويقوم بترويجها للجوار والاتحاد الأوربي خطراً محدقاً، وما وصولها للولايات المتحدة إلا مسألة وقت، بتهريبها عبر الأطلسي للبر الأمريكي، وتُشكل تلك المخدّرات مصدر قلق دولي لا يُمكن تجاهله.
وليست كميّات المخدرات بِهدف الإتجار لمسؤولين فاسدين في سورية فحسب بل هي استراتيجية للحرس الثوري الأيراني لاستهداف المجتمعات بسلاح المخدرات والتي لا يتاح له استهدافها بسلاح المسيرات والميليشيات، فهذا النوع من الحرب هو أحد أدوات المشروع الإيراني في المنطقة والضغط على الغرب للسكوت عن ذلك المشروع.
وما نظام الأسد إلاّ حلقة مهمة في هذا المشروع الذي يُدار من طهران، ولاشكّ أنّ بنتيجة السياسة الأمريكية الرامية لتجفيف الدولار عن الحرس الثوري الإيراني ستزيد شراسة أذرع المحور بِتهريب تلك السموم للحصول على عائد مالي بالعملة الصعبة لتمويل ميليشياتها وأنشطتها وهو مبلغ ليس بالقليل.
لذلك أرى لزاماً على ذلك أن يتبنّى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في سورية الذي يضم أكثر من ستين دولة بقيادة الولايات المتحدة في استبدال الخليفة “أبو بكر البغدادي” ومن أتى بعده بخليفة المخدرات الجديد بشار الأسد في عمليات أو حرب أو ضغوط أو أي إجراء آخر للإطاحة به وانتزاع مناطق سيطرته من النفوذ الروسي والإيراني.