تتسبّب المشاكسة الإيرانية في الحرب الأوكرانية بغضب أميركي واضح، ووصول الطائرات المسيّرة الإيرانية، ودفعة الصواريخ الباليستية، إلى الحدود الشرقية لأوروبا، دعماً لروسيا في حربها على أوكرانيا، كان مقلقاً لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، عدا عن تمدّد إيران وأدواتها وتغولهما، مع تهديدات حرسها الثوري التي طاولت منابع مصادر الطاقة، وخطوط نقل التجارة العالمية، وحتى العبث بمصير عدة دول عربية أوصلتها إيران نحو الهاوية.
لم تكن استفزازات إيران خافية على أحد، وقد تكون في جزئيةٍ ما تخدم الاستراتيجية الأميركية، كونها حافزاً لزيادة تسليح بعض الدول التي تعتمد على المخزون الأميركي من السلاح، لكن ما تفعله طهران يقع تحت أنظار صانع القرارين، السياسي والعسكري، الأميركيين والإسرائيليين، والولايات المتحدة وإسرائيل تتأهبّان وتنتظران ذريعة تبرّر عملاً عسكرياً ضد طهران التي تجاوزت المسموح لها في بعض المناطق، بل وتخطت الخطوط الحمراء، خصوصاً عندما تقصف قاعدة التنف في شرقي سورية التي تخضع لنفوذ التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وأدّى إلى جرح عناصر من جيش سورية الحر، أو عندما تقترب عناصر مليشيا حزب الله مسافة عشرات الأمتار من خط فكّ الاشتباك في الجولان السوري الموقع عام 1974 لتنصب أسلحةً يمكن استخدامها ضد الجيش الإسرائيلي عبر حدود الجولان.
إيران التي لا يقلقها فقط حجم الخسائر الفادحة الناجمة عن ضربات المسيّرات في العمق الإيراني، عبر مسيرات قصفت مصانع للصواريخ الباليستية والطيران المسير وبعض المستودعات، واستهدف الهجوم أيضاً بعض بطاريات الدفاع الجوي، ولا يقلق إيران أيضاً ضخامة بنك المعلومات الذي باتت تمتلكه تل أبيب وواشنطن لكل أدواتها ومشاريعها العسكرية والنووية في داخل إيران وخارجها، ما يقلق إيران اليوم حجم (وعمق) الخرق الاستخباراتي لأعدائها في صفوف قياداتها السياسية والعسكرية والأمنية ومفاصلها، وحتى قيادات أدواتها في العراق لبنان وسورية واليمن.
ما يقلق إيران اليوم حجم (وعمق) الخرق الاستخباراتي لأعدائها في صفوف قياداتها السياسية والعسكرية والأمنية ومفاصلها
عندما يكون نائب وزير الدفاع الإيراني جاسوساً لبريطانيا (أعلن في 14 يناير/ كانون الثاني 2023، عن تنفيذ حكم الإعدام في علي رضا أكبري، لكن إيران نفت أن يكون استلم منصب نائب وزير الدفاع)، وعندما يكون محمد شوربا نائباً للمسؤول الأمني في الوحدة 910 الخاصة بحزب الله عميلاً لإسرائيل (الوحدة 910 تُلقب “الوحدة السوداء”، وهي إحدى أهم وحدات منظومة الاستخبارات الخارجية للحزب، وتضم وحدات قتالية نخبوية)، وقد سرّب شوربا للموساد الإسرائيلي معلوماتٍ في غاية الأهمية عن محاولة تقفي آثار رئيس الأركان الإسرائيلي، غابي أشكنازي، ووزير الحرب إيهود باراك، وكشف أكثر من 17 متعاوناً مع الحزب داخل إسرائيل. وأكّدت مصادر أن لشوربا دوراً مهماً في بعض المعلومات التي سهلت عملية اغتيال عماد مغنية، وكان أحد أهم كوادر حزب الله، في عام 2008.
وعندما تقصف المسيّرات الإسرائيلية نهاية ديسمبر/ كانون الأول العربة رقم 8 التي تحمل سلاحاً خاصاً إيرانياً على حدود البوكمال السورية، وهي مموّهة ضمن قافلة تضم عشرات العربات، ثم تعود المسيرات نهاية شهر يناير/ كانون الثاني إلى قصف قافلة إيرانية أخرى، دخلت من العراق إلى ساحة الأسطورة في قرية الهري قرب البوكمال، وبعد دقائق من وضعها في مستودعات سرّية، عندها نُدرك مدى اختراق الموساد الإسرائيلي قيادات في الصفوف الأولى في الحرس الثوري الإيراني وفي صفوف حزب الله، لتعزل إيران على الفور قائد قواتها في دير الزور ومحيطها، الحاج عسكر، وتنصيب الحاج عباس بديلاً عنه، مع فتح تحقيق بالأمر، وتلك الخروق غيض من فيض، وما تم إعلانه من خروق في قيادات إيران أقل بكثير مما تم إخفاؤه إيرانياً وامتنعت عن كشفه إسرائيل.
شهدت مياه الخليج العربي، نهاية الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) مناورات عسكرية أميركية إسرائيلية اشتركت فيها وحدات من كل أنواع القوات المسلحة (البرّية والبحرية والجوية)، بما تملك تلك القوات من قمة تقنيات الحروب الحديثة، ووٌصفت المناورات بالكبرى والأضخم بين البلدين، وكان على إيران قراءة الرسالة والمغزى، خصوصاً أن تلك المناورات تجري في عمق مناطقها الحساسة، فكان قصف المواقع الإيرانية في أصفهان كأنه مشروع تدريبي بالأسلحة الحية، توّجت به تلك المناورات، والرسالة الأميركية الإسرائيلية كانت واضحة، بشأن ما هو ممنوع على إيران امتلاكه، أو ما هي المناطق التي يٌمنع العبث فيها، أو مواقع ومسارح يٌمنع على إيران الوجود فيها، إضافة إلى مشاريع يجب وقفها أو تحجيمها.
الرسالة وصلت إلى طهران وبقوة، وعدم الرد الإيراني وابتلاع الصفعة، حتى لو كانت مؤلمة، هو المتوقع
قوة رسالة قصف مواقع استراتيجية عسكرية في أصفهان أنها كانت بالعمق الإيراني، وأحرجت القادة العسكريين والسياسيين الإيرانيين. وقد أصبح خطاب إعلام طهران المعتاد من الاحتفاظ بحق الرد بالزمان والمكان المناسبين أسطوانة مشروخة، عاجزاً عن إقناع حتى الداخل الإيراني المؤدلج، فما بالك بأتباعها في الخارج؟ وأن يقود تفكير قادة إيران إلى ردٍّ محدودٍ في خواصر أميركية ضعيفة في العراق وسورية، أو مجنبات إسرائيلية هشة يمكن خرقها في محيط الجولان السوري، أمر قد يتسبب لإيران بمزيد من الضربات التأديبية، وقد يفتح على طهران أبواب جهنم، مع قيادة عسكرية إسرائيلية جديدة بوزير دفاعها ورئيس أركانها الذي وصفه زملاؤه بالـ”متفلت”، إضافة لرئيس حكومة مقتنع تماماً أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي تفهمها إيران.
الردود السابقة لإيران وحزب الله على عمليات استهداف مليشياتهما في سورية والعراق وإيران، وما سٌميت بالردود الانتقامية، وخوفاً من الانخراط في مواجهة خاسرة بالتأكيد، حاولت إيران فيها عدم المساس بحياة الجنود الأميركيين والإسرائيليين، كما جرى في عملية قصف جدران قاعدة عين الأسد في العراق رداً على اغتيال قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، وكذلك فعل حزب الله بعدة عمليات في مزارع شبعا عامي 2016 و2017، وكانت تتقصد عدم إيقاع خسائر بشرية بالجنود الإسرائيليين، وتهدف لضربات أقرب إلى المسرحية، غايتها فقط شد عصب حاضنتها “المقاومة”.
تدرك طهران اليوم أن أي خطأ في الحسابات العسكرية سيفتح عليها أبواب جهنم، في وضع داخلي إيراني متأزّم، وخارجي متأهّب
في صميم الاجتماعات العسكرية والأمنية، وحتى السياسية التي التقى فيها قادة وجنرالات أميركيون مع مسؤولين إسرائيليين، لوحظ أن هناك متغيرات جديدة في طريقة التعاطي مع الوجود الإيراني في سورية، وأن سياسة “جز العشب” أو “ضرب فائض القوة” المتّبعة مع تمدد إيران وتخطّيها قواعد الاشتباك في سورية، لم يعد معمولاً بها، وأن التعاطي الجديد سيكون بضرب جذور التموضع الإيراني في سورية، وضرورة وقف نشاطات إيران بما يخص المشروع النووي، وأن تحجيم مشروع الصواريخ الباليستية ومشروع المسيّرات بات هدفاً أميركياً إسرائيلياً، أو على الأقل أن واشنطن لم تعد تضع “فيتو” على غارات الطائرات الإسرائيلية، بدليل إجراء مناورات مشتركة معها على مقربة من الحدود الإيرانية، إضافة إلى السفن الحربية التي تدرّبت على حدود المياه الإقليمية لإيران، ومهمة لجم إيران كان مطلباً من حلف الناتو، فالمسيّرات والصواريخ الإيرانية شكلت دعماً للقوات الروسية في حربها في أوكرانيا وتسبّبت بقلق أوروبي.
كائناً من كان منفذ الضربات الأخيرة داخل إيران، إن كانت مشتركة (أميركية – إسرائيلية) أو فردية بموافقة ضمنية من الآخر، فالرسالة وصلت إلى طهران وبقوة، وعدم الرد الإيراني وابتلاع الصفعة، حتى لو كانت مؤلمة/ هو المتوقع، وإن ما تسميه طهران “الصبر الاستراتيجي” هو المرشّح للبقاء، بل ذهبت إيران إلى أبعد من ذلك، في محاولة للتملص من أعباء الرد العسكري، عندما شكّكت بأن تكون إسرائيل وراء الهجوم الذي طاول مواقع في أصفهان، وأنها ما زالت تمارس عملية التحقيق والتدقيق والتحليل والتمحيص لتعرف الجهة التي تقف خلف الهجوم، أو يمكن أن نتوقع ردّاً إيرانياً محدوداً، على غرار ما سبق من ردود، لأن طهران اليوم تُدرك أن أي خطأ في الحسابات العسكرية سيفتح عليها أبواب جهنم، في ظل وضع داخلي إيراني متأزّم، وخارجي متأهب، قد يوقعها بين فكي كمّاشة، ويشكّل قاعدةً للتخلّص من سلطة الملالي.
يبقى السؤال الذي يراود دولاً متضرّرةً من الانفلات الإيراني في المنطقة، ومتضرّرة من مبدأ تصدير الثورة الذي تحول إلى تصدير الإرهاب، ودمر عدة عواصم عربية، هل ما تم من ضربات في أصفهان هي تأديب لإيران، لوقف تحرّشاتها وتدخلاتها بدول مجاورة ووقف مشروع هلالها الشيعي، أم ضربات تأنيب محدودة لتجاوزها خطوطا حمراء ترفضها تل أبيب وواشنطن؟