في خطوة قانونية وحقوقية نوعية أصدر قاضيا تحقيق فرنسيان أوامر بمحاكمة ثلاثة من كبار المسؤولين الأمنيين في النظام السوري، بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتورط في جناية حرب في سوريا. وشملت الإحالات اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي، واللواء جميل حسن الرئيس السابق لإدارة المخابرات الجوية، والعميد عبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في مطار المزة الواقع تحت إدارة المخابرات الجوية.
ورغم أن مملوك وحسن يخضعان أصلاً للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي منذ أيار/ مايو 2011 على عدد من ضباط الأجهزة الأمنية في النظام السوري، وأن محمود يشترك معهما في مذكرة توقيف أصدرها القضاء الفرنسي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، فإن تطور الملف إلى المطالبة بمحاكمة المسؤولين الثلاثة يعد نقلة نوعية يمكن أن تكون لها تبعات قضائية فارقة على العديد من القضايا المرفوعة في أوروبا ضد كبار رجال النظام السوري.
صحيح أن الملف الذي استند إليه القاضيان الفرنسيان في طلب المحاكمة يخص قضية محددة، هي التواطؤ في قتل مواطنين اثنين فرنسيين من أصول سورية هما مازن دباغ ونجله باتريك في واقعة تعود إلى عام 2013، إلا أن القرار القضائي يشكل سنداً قانونياً قوياً لمتابعة مبدأ أساس في الدبلوماسية الفرنسية الراهنة يخص مكافحة الإفلات من العقاب.
كذلك يساهم هذا التحول الهام في تقوية أعمال لجنة التحقيق الدولية الخاصة بتوثيق جرائم الحرب في سوريا، والتي أنشئت بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان في سنة 2011، خاصة وأن سلطات النظام السوري تمنع مندوبي اللجنة من دخول الأراضي السورية ومقابلة الضحايا. كما أن الإحالة إلى المحكمة تفسح مجالات أوسع أمام الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي تأسست سنة 2016 بموجب قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وإضافة إلى تشجيع المنظمات الدولية الحقوقية وهيئات المجتمع المدني المعنية بمناهضة طرائق الإفلات من العقاب، فإن الارتقاء بملفات اتهام بارتكاب جرائم الحرب إلى مستويات أعلى من المقاضاة يُفشل بعض الآثار السلبية لحقّ النقض (الفيتو) الذي استخدمته وتستخدمه روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي لقطع الطريق أمام إحالة النظام السوري إلى محكمة الجنايات الدولية. وجدير بالتذكير أن هذه الإشكاليات وسواها كانت موضوع مؤتمر دولي متميز احتضنته العاصمة القطرية الدوحة، في ربيع 2019، وبحث المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وأساليب العمل من أجل مكافحة الإفلات من العقاب.
المعطيات الموثقة في السجل الإجرامي للنظام السوري تشير إلى أكثر من 15 ألف وفاة تحت التعذيب، و112 ألف اختفاء قسري، و154 ألف اعتقال تعسفي، وفي وقت يشهد مبادرة القضاء الفرنسي إلى فتح نافذة عدالة أولى أمام ضحايا فإن جهود بعض الأنظمة العربية تتهافت على إعادة تأهيل النظام. وكأن قرار مجلس الجامعة العربية لعام 2011، القاضي بتعليق مشاركة وفود النظام السوري في مختلف اجتماعات الجامعة والذي وافقت عليه 18 دولة مع امتناع العراق واعتراض سوريا ولبنان واليمن، صار نافلاً لصالح موجبات الاستبداد والفساد والتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.