مما لاشك فيه أن بنود المبادرة التي أقرتها وثيقة الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو تضمنت شروط الرئيس الروسي بوتين, لكن ما غاب عنها بالتأكيد هي شروط ومطالب قائد فاغنر “بريغوجين” حرصاً منه ومن الوسيط على ماء وجه الرئيس المهزوز ومراعاة لمعنويات الجنود الروس على جبهات أوكرانيا, لكن كيف انزلقت الأحداث لتصل لتلك الحالة وهذا المشهد الذي كشف ما عجزت أجهزة استخبارات الغرب من الحصول عليه وهو ضعف وانعدام سلطات بوتين على مفاصل حكمه العسكرية والأمنية والسياسية.
طباخ بوتين أو قائد فاغنر لم يكن غريباً أو بعيداً عن دائرة السلطة التي تدير البلد في روسيا, فهو الصديق الأكثر قرباً بين عدة أصدقاء أحاطوا ببوتين خلال مرحلة حكمه, لكن بالتأكيد ليست بالدرجة التي يتمتع بها سيرغي شويغو وزير الدفاع الحالي, وسوء العلاقة بين بريغوجين وشويغو لم تكن عمن هو الأقرب والأبعد لبوتين بل كانت عبر صراع وطعنات حاول من خلالها الوزير شويغو إضعاف قائد فاغنر كخصم سياسي قد يشكل عائقاً في طريقه نحو الاستيلاء على إرث بوتين في المستقبل.
يقول بريغوجين بتصريحات مفاجأة منذ أسابيع: لقد وضعنا خطة عسكرية في قيادة فاغنر لتنفيذ عملية عسكرية على حقول النفط السورية في شرق سورية (حقول العمر والشاعر وحيان), ونسقت الأمر مع رئاسة أركان الجيش في موسكو ثم انتقلت لقاعدة حميميم على السواحل السورية لوضع اللمسات الأخيرة على الخطة مع قيادة القاعدة, وهناك حصلت على وعود بتغطية بوسائط الدفاع الجوي وبطلعات ودوريات من طائرات السوخوي الروسية لتأمين سماء المعركة ليلة 7_8 شباط/ 2018 (ليلة العملية العسكرية المخططة), والتي سميت لاحقاً بـ”مجزرة فبراير الأحمر” بعد أن غدرت قاعدة حميميم بفاغنر نتيجة تفاهمات جرت مع القيادة الأمريكية بالشرق الأوسط وفيها أوقفت قاعدة حميميم وبأوامر من وزير الدفاع شويغو عمل وسائط الدفاع الجوي المخصصة لتغطية قوات فاغنر وألغت إقلاع طائرات السوخوي وأكثر من ذلك أن التفاهم حصل في الساعة 11:45 أي قبل بدء فاغنر لعمليتها في شرقي الفرات المقررة الساعة 12:00 ليلاً, و15 دقيقة كانت كافية لو أُبلغنا بها لإيقاف العملية ومنع قتل ما بين 400_ 600 عنصر وضابط من فاغنر, وبريغوجين في تلك الليلة ابتلع كأس السم من شويغو لكنه لم ينسَه.
في جبهات أوكرانيا حاول قائد فاغنر فضح فساد وزارة الدفاع الروسية في عهد شويغو, وتحدث كثيراً عن فساد ضباط الجيش, وعن بيع القادة للسلاح والذخيرة, وعن سرقتهم أموال مشاريع التدريب والمناورات, وعن سرقة أموال طعام الطوارئ, وكرر أكثر من مرة أن معظم التقارير العسكرية التي يرفعها ضباط وزارة الدفاع للقيادة السياسية عن حالة القوات وجاهزيتها, أنها كاذبة, وقال إن تقارير نتائج الأعمال القتالية في أوكرانيا مفبركة ولا تتضمن الحقيقة وفيها مبالغات بالأرقام, وهدد بنقل الحقيقة للرئيس بوتين قائلاً: جنرالات شويغو يكتبون التقارير بما يطرب آذان بوتين وليس وفق مجريات ونتائج المعارك, لكن الأمور تدهورت لأبعد من ذلك خاصة عندما طلب الرئيس بوتين من فاغنر توقيع عقود عمل مع وزارة الدفاع فرفض بريغوجين واعتبر الأمر بمثابة “طريق عار” لن تسلكه فاغنر خاصة بوجود الوزير شويغو, فازدادت الخلافات بين الرجلين, وساءت الأمور عندما حققت شركة فاغنر نصراً على جبهات باخموت الأوكرانية ما ولّد الضغينة أكثر في صدر شويغو فأراد التخلص من بريغوجين عبر قصف جوي سينسب لاحقاً لخطأ فني وقعت به قيادة العمليات في الجيش الروسي.
لكن الجنرال سيرغي سورفوكين قائد القوات الروسية في أوكرانيا وقبلها كان قائد قاعدة حميميم في سوريا كان له رأي آخر مع الجنرال ميخائيل لينسكي اللذين سرّبا خطة شويغو لقائد فاغنر بريغوجين الذي قام بتغيير مواقع مقاتليه بعد أن موّه المكان وهكذا قصفت طائرات شويغو مناطق خالية وليستغل الحادثة بريغوجين ويخرج مطالباً برأس شويغو.
“طريق العدالة” كان عنوان للحملة التي قادها قائد فاغنر لسحق وزير الدفاع الروسي شويغو ورئيس أركانه غيراسيموف والتي اعتبرت لاحقاً حركة تمرد عسكرية ضد وزارة الدفاع ثم ضد السلطات الروسية, تلك الجملة التي عبرت بكثير من الغرابة الحدود الأوكرانية الروسية متوجهة إلى مقاطعة روستوف دون أي إعاقة أو إشغال من قوات حرس الحدود الروسية رغم علم الجميع بنوايا بريغوجين, ومع الوصول لمقاطعة روسستوف (عاصمة الجنوب الروسي) تمت السيطرة على كل المباني الحكومية ومقر قيادة المناطق الجنوبية بالجيش الروسي ومقر القيادة الرئيس للعمليات في أوكرانيا وحتى المطار العسكري تمت السيطرة عليه بعد أن أمر شويغو عدد من الحوامات بقصف قوات فاغنر، فأسقطت فاغنر عدداً منها ثم ألغت طلعات الطيران إلا المتوجهة لأوكرانيا.
وساطة نائب وزير الدفاع الروسي ونائب رئيس العمليات واجتماعهما مع بريغوجين لم تستطع أن توقف زحف قوات فاغنر نحو العاصمة موسكو, وقيل إن بريغوجين اعتقلهما بعد الاجتماع ما دعا برئيس الأركان غيراسيموف المتواجد في روستوف للفرار نحو العاصمة, ورفع بريغوجين من سقف تصريحاته عندما وصف اتهامه من قبل بوتين بالخيانة واعتبره خاطئ وقال قد تكون روسيا بحاجة لرئيس جديد, وقال إن قرار الحرب على أوكرانيا بُني على تقارير عسكرية وأمنية خاطئة وبشكل مقصود من قبل جنرالات شويغو الطامحون لنياشين ورتب عسكرية أعلى, وبعدها تحركت أرتال فاغنر لتسيطر لاحقاً على مقاطعة فورونيج ولينسك وتابعت التقدم على الطريق إم4 الذي يربط شمال البلاد بجنوبها, وحتى قصف محطات الوقود على الطريق من قبل الطيران الروسي لقطع الإمدادات عن أرتال بريغوجين لم توقف زحفها وأصبحت على مسافة تقارب الـ200كم من موسكو التي اكتفت وبشكل لافت بإجراءات عمدتها الذي قطع بإمكانياته المحلية طريق إم4 بأكثر من مكان ونشر بعض القوات المحلية لمواجهة بريغوجين.
كانت سمة التردد واضحة على الرئيس بوتين في خطابه المقتضب وحتى في قراراته الغريبة, وإلا ما معنى أن قائد ثاني أقوى جيش بالعالم (كما يقول بوتين) أن يلجأ للرئيس الشيشاني قاديروف لإرسال قواته لمواجهة فاغنر في روستوف؟؟ أين الجيش الروسي؟؟ أم إن بوتين كانت لديه شكوك باحتمال عصيان قادة جيشه لأوامره فلجأ للخارج؟؟
الـ36 ساعة التي أُخمدت نيرانها عبر مبادرة لوكاشينكو قد تكون أوقفت تقدم بريغوجين نحو وزارة الدفاع الروسية في موسكو وأعادته لمواقع انطلاقه, وقد تكون هناك جهات سياسية وعسكرية وأمنية قد خذلت بريغوجين بحركته والانضمام إليها, فاضطر لقبول مبادرة لوكاشينكو ببنودها القاسية, وقد تكون حجمت دور فاغنر في المستقبل, وقد تكون أمنت مرحلياً نفي بريغوجين لبيلاروسيا, وقد تجبر بعض مجموعات فاغنر على توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية, لكنها بالتأكيد كشفت الكثير من تفكك القيادة الروسية, وأظهرت مدى الصدع العميق بين القيادة السياسية والعسكرية والأمنية, وعرت القبضة التي كانت توصف بالفولاذية للرئيس بوتين, لتظهره على حقيقته, ضعيفاً متردداً, خائفاً, اضطر للهروب من موسكو إلى مخبئه السري في قصر غلينسك على البحر الأسود, ذلك المخبأ الذي شيده بوتين على أنقاض قصر سابق بعد غزوه لشبه جزيرة القرم وبعيداً عن صواريخ حلف الناتو.
تداعيات تمرد بريغوجين قد تمتد لأمد بعيد, وقد تغير من خارطة النفوذ السياسي في الكرملين لاحقاً, ومطالب بريغوجين وإن تأخر تنفيذها فالرئيس بوتين أصبح على دراية بعمق منظومة الفساد التي فاقت توقعاته ومسموحاته, لكن تفكك منظومة قيادة بوتين السياسية والعسكرية والأمنية والشرخ العميق بين القيادة السياسية والعسكرية والأمنية هي من ستكون موضع شك وترقب وقد تنعكس على مجريات الحرب في أوكرانيا, وقد تمهد لسلطة جديدة في روسيا تغيّر من الوضع الذي وصلت إليه البلاد في عهد بوتين, فهل يكون بريغوجين عرّاب المرحلة القادمة خاصة بعد التعاطف الشعبي الذي رافق مغامرته نحو موسكو وباقات الورود التي قُدمت لعناصر فاغنر في روستوف وفورونيج ولينسك وكان من المحتمل أن يفعلها سكان موسكو لو وصلت إليهم أرتال فاغنر؟.