آلاف الطلاب السوريين الموفدين إلى الخارج يرفضون العودة

آلاف الطلاب السوريين الموفدين إلى الخارج يرفضون العودة
أكثر من ثلاثة آلاف طالب أرسلتهم الحكومة السورية للدراسة في الخارج خلال سنوات الحرب، رفضوا العودة إلى سوريا بعد انتهاء دراستهم، خارقين شروط الإيفاد، إذ تقول الحكومة إنّها تكبّدت مصاريف كبيرة بالعملة الصعبة لكل طالب، بدءاً من سفره ووصولاً إلى سكنه واحتياجاته، ورفده براتب شهري لم ينقطع خلال سنوات دراسته الجامعية حتى تخرّجه.
تقول مصادر لـ”النهار العربي”، إنّ هناك على الأقل ما بين 90 إلى 95 في المئة من الموفدين رفضوا العودة إلى سوريا بعد التواصل معهم. في حين تقول الحكومة إنّ رافضي العودة هم 83 في المئة، الأمر الذي شكّل ضغطاً إضافياً على البلد الذي يحتاج كوادره بأي طريقة، في الجانبين العلمي والعملي لمرحلة ما بعد الحرب، التي يُطرح بعضٌ مِن خُططها بين وقت وآخر، لتحفيز العقول وترغيب الكفاءات العلمية للعودة.
وينصّ قانون الإيفاد على عقد يلتزم فيه الموفد بخدمة الدولة لمدة تعادل ضعفي مدة الدراسة في الخارج على نفقة الدولة، فإذا درس على نفقتها 3 سنوات فهو ملزم بالخدمة لمدة 6 سنوات، أما من أُوفد بحسب القانون رقم 6 لعام 2013، فإنّ مدّة الالتزام ضعف مدّة الإيفاد، شريطة أن لا تقلّ عن 5 سنوات. كما يتوجّب على الطالب الموفد إلى الخارج، أن يضع نفسه تحت تصرّف وزارة التعليم العالي بعد حصوله على الشهادة المطلوبة، خلال 60 يوماً على الأكثر.
أرقام ملتبسة
أرقام ومعلومات وزارة التعليم العالي السورية تبدو غير واضحة وغير منطقية أحياناً في ملف “الإيفاد” والطلاب الرافضين العودة إلى بلدهم، ويظهر هذا جلياً من محاضر اجتماعاتها وقراراتها وتعاملها مع المراسيم الناظمة التي أُقرّت في الحرب، إذ يظهر التخبّط في القرارات، ليأخذ شكلاً انتقامياً من الطلاب أكثر منه دعوة للعودة أو تسوية أوضاعهم.
يسأل خريجون كثر عن تسوية عادلة واحدة طُرحت منذ بداية الحرب، مقلّلين من أهمية الأخبار المتداولة، وإن كان مصدر بعضها رسمياً، وقد تبدو للوهلة الأولى في صالحهم، بيد أنّ التدقيق في آلية تنفيذها يبيّن أنّها تأتي على حسابهم.
“لن أعود”
ماجد الظرف، طالب أُوفد دراسياً منذ عام 2011 إلى ألمانيا ليكمل تخصّصه العالي على حساب حكومة بلده، إلّا أنّ الحرب التي استعرت في سوريا حالت دون عودته إليها مرّة ثانية. وباستثناء أنّ الحرب سبب يحول بينه وبين زيارته، فإنّه إن عاد سيواجه عقوبات قانونية وقضائية.
يقول: “سيُلقى القبض عليّ في المطار، ثم ما الذي بقي لي في سوريا حتى أزورها؟ لم يبق أحد من عائلتي. وبالحديث عن إيفادي، فصحيح أنّني درست على حساب حكومة بلادي لسنوات، ولكن هل كل ما حصل في سنوات الحرب هو منطقي ورفضي العودة هو غير المنطقي؟ بالتأكيد لن أعود، وأشكر بلدي الذي درّسني ولا أنكر فضله، وأنا مستعد لعقد أي تسوية عادلة، ولكني لن أقبل بتحميلي مسؤوليات وتبعات أفضى إليها الحال العام، ولم أكن أنا سببها”.
ويضيف: “أنا تخرّجت بتفوقي، وفوق ذلك، فالحكومة ضمنت حقها سلفاً حين رهنت منزلي لأعود، ألا يكفي ذلك؟”.
ويرى ماجد أنّ على الحكومة “أن تشغل بالها الآن بإعادة الإعمار واستعادة ما نُهب ويُنهب منها، وباستقطاب العقول لا تطفيشها كما يحصل، بدل أن تشغل بالها بنا… الآن أنا أعمل وأتقاضى مرتباً كبيراً باليورو. لماذا سأعود، لأتقاضى 20 يورو؟ هذا غير معقول ولا يقبله العقل”.
الموفدون
لدى الطلاب الموفدين إلى الخارج أسبابهم لعدم العودة، قد تبدو معروفة، وإن حملت في جوانبها بعض الأنانية، ولكن السؤال، هل بلدهم له دين يحتّم عليهم العودة وتحمّل الواقع، أم عليهم تأمين مستقبلهم الذي ما كانوا ليصلوا إليه لولا إيفادهم أساساً؟
سؤال يبقى في أذهانهم بين وقت وآخر، ولكنّهم يتعاملون مع واقعهم بصرامة وجدّية. بعضهم عرفوا الحرب وخبروها، ورأوا وهم في بلدان الاغتراب كيف امتلأ المكان من حولهم باللاجئين من أقرانهم، الذين رووا لهم قصصاً مؤلمة عن حال بلدهم لحظة هروبهم، وهو سبب آخر لتمسّكهم بالمكان الذي صاروا فيه، بعدما وصلوه آمنين من دون أن يعانوا مشقّة الهروب.
“أفْضل حيث أنا”
ريمه حواط، طالبة موفدة إلى إسبانيا في وقت مبكر من الحرب، لا تعيش هناك أفضل أيامها كما تشرح، ولكنّها متمسّكة بذلك المكان الذي لم يمنحها جنسيته رغم كل تلك السنوات.
تقول: “بمعزل عن موضوع الجنسية، وذلك أمر معقّد في ما يتعلق عامةً بإسبانيا والإيفاد، ومن المعيب أن أقارن بين إسبانيا وبلدي، لأسباب تتعلق بالتربية التي شكّلت ذواتنا، ولكنْ ثمّة أمور يفرضها المنطق، ما هي موجبات عودتي نحو بلد يهرب الناس منه صباحاً ومساءً؟”.
وعن ضمان إيفادها، تؤكّد أنّ الحكومة “استملكت منزل والدتي عن طريق الرهن، ألا يكفي هذا الضمان؟، الآن علمت أني إذا أردت العودة إلى بلدي فعليّ دفع مئات الملايين لإجراء تسوية كما قيل لي. سأفنّد الأمر قليلاً، سيشغّلونني حين أعود في الجامعة بضعف المدة التي قضيتها موفدة هنا، وبراتب بضعة يوروهات، وسأحتاج مئات السنين لأعود وأجمع مئات الملايين التي أجريت بها التسوية. ثمّ لديّ ما هو أهم، كلّما حادثت أهلي وأصدقائي ينصحونني بألّا أعود… أعتقد أنّ هذا كافٍ”.
السفر الشرعي
الحكومة تأخذ على الطلاب كشرط إيفاد قانوني، سندات أمانة على شكل ضمانات عقارية، تكون من الموفد أو أهله أو أحد أفراد أسرته، ولكن الموفد يعرف غالباً أنّه لن يعود، فيوافق ضمناً على بيع العقار لاحقاً، والذي يكون ثمنه أقل بكثير من تكلفة الدراسة، وحتى من تكلفة الهجرة البرية أو البحرية بكل ما فيهما من مخاطر.
ويمكن القول إنّ هذا القبول الضمني ببيع العقار هو ما تشكّل لدى الفئة التي أُوفدت بعد الحرب، والتي كان لدى جزء كبير منها تصوّر مسبق عن احتمال عدم العودة، فيصحّ القول إنّهم استغلّوا الذريعة العلمية لتأمين سفر لائق، إذ إن أي فرصة عمل في الخارج ستتيح لهم بسنوات قليلة، جمع ثمن المنزل الذي رهنوه لسفرهم.
وهذا ما حصل مع منار سالم الذي حاز الدكتوراه في فرنسا قبل سنوات، ليتقدّم بعدها لنيل الجنسية هناك، وكان قد رهن قطعة أرض تبلغ مساحتها دونمات عدة، وتمّ بيعها لاحقاً حين انتهت مدة إيفاده ولم يرجع إلى بلده.
ويقول: “ليست الأرض مشكلة الآن، أساساً تمكنت من جمع أكثر من ثمنها خلال عملي هنا. نعم كنت حزيناً أنّها أرض العائلة، ولكن حين رأيت صلابة أهلي في الموضوع تجاوزته… كان كلّ المهمّ لدى والدي ووالدتي أن أبدأ حياةً جديدة لا مخاطر فيها ولا مشاكل”.
رأي مشابه تقوله بيداء جوخدار في حديثها لـ”النهار العربي”: “لم أكن أتمنى شيئاً أكثر من التعلّم في بلدي والعمل فيه، لكنّ ما حصل كان قاسياً على أرواحنا ومستقبلنا، فحصلت على الإيفاد، مع علمي المسبق أنّ العقار الذي رهنّاه سيُباع لأني لن أعود، ورغم أني هنا الآن في فرنسا ومستقلة أسرياً ومهنياً، ولكن لم يفارقني بلدي يوماً، أتمنى الذهاب إلى سوريا، ولكن لأزورها، ولأرى كيف صارت، لا لأخدم في الجامعات التي ستعطيني مرتباً لن يكفي ثمناً للمواصلات”.
وتلفت جوخدار إلى أمر في غاية الأهمية، وهو ما يتعلّق بالذكور الموفدين، وبأنّه لا يحق لهم دفع البدل النقدي عن خدمة العلم (الخدمة العسكرية) بحجة الاغتراب، فقانون البدل لا ينطبق عليهم، ولعلّه سبب إضافي وجوهري جعل الموفدين يفضّلون البقاء في المهجر.
والجدير بالذكر، أنّ أولئك الذين حظيوا بفرصة الإيفاد إلى أوروبا قبل أن تشتد ظروف الحرب وتُفرض العقوبات تتالياً وتسوء الأمور دولياً، أكثر حظاً بكثير من جيل الموفدين الذي أُرسل إلى إيران والهند وروسيا ودول أخرى، في غالبها لا تمنح الجنسية ولا حتى الإقامة بعد انتهاء الدراسة، فيعودون إلى بلدهم.
دبّروا أنفسكم!
وفي السياق، قابل “النهار العربي” شاباً من مدينة دمشق يُدعى أحمد معروف، لديه شقيقة موفدة إلى الهند لنيل درجة الدكتوراه في تخصّصها، ويروي لنا واحدة من المشاكل الغريبة التي صادفَتْها: “في مرحلة الحَجر الصحي العالمي إثر وباء كوفيد-19، توقف التعليم هناك، وأُخرج الطلاب من مساكنهم، فاضطرت أختي أن تستأجر على حسابها، وكذلك بقينا فترة طويلة نستدين ونرسل لها من مالنا الخاص، والحكومة غير مهتمة”.
 
يمكن قول الكثير في ملف الموفدين، ولكن الأهم هو أنّ على حكومة سوريا أن تتحرّك بجدّية إن كانت لديها أي نيّة فعليّة في محو ما مضى، وبدء صفحة علمية ومجتمعية جديدة، ولا يبدو ذلك مستحيلاً، فالقليل من تعديل القوانين، والنظر إلى الأمور من زاوية أوسع، وقراءة المرحلة وما تقتضيها، مع الحصول على مساعدات في تلك الشؤون، كلّها عوامل قد تجعل البلد في حالة أفضل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

القائمة