لم تطلب أميركا من “نظام الأسد” /تغيير سلوكه/ إثر مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، بل أمرته بالخروج من لبنان فوراً؛ ونفّذ الأمر بأسرع من الوقت المحدّد. لأكثر من عقد زمني، تسبّب “النظام” ذاته باعتقال وتعذيب وتغييب وقتل وتشريد ملايين ممَّن هم افتراضياً “شعبه”، وبتدمير ما هو افتراضياً “بلاده”؛ وكان أقصى ما طَلَبَته منه أميركا ذاتها /تغيير سلوكه/.
تدرك أميركا أكثر من غيرها، أن أي تغيير في سلوكه، هو نهاية له؛ لذا تستند في طلبها هذا إلى تحصينات مضادّة موجودة في بنيته تتمثّل بانفصاله عن الواقع والعناد والمكابرة والرعب من أصغر تغيير. يعزّز حصانته تلك إشاحة أميركا الطرف عن دعم إيراني ميليشياوي له، وتدخُّل روسي يضمن بقاءه؛ وعلى عدم استجابته، واطمئنانه لقرارات دولية رخوة مبهمة، لا أحد يحرص على تنفيذها.
ومن هنا، حرصت أميركا في سياسة إداراتها المتعاقبة تجاه القضية السورية خلال السنوات الماضية على الالتزام بمعادلة “اللا حسم” بحيث {لا ينتصر النظام، ولا ينتهي} من جانب؛ و{لا تنتصر الثورة السورية، ولا تنتهي} من الجانب الآخر. استلزمت تلك السياسة الاستنزافية التفاعل مع تطورات القضية السورية ومواقف وأفعال المنخرطين بها، لتتحول سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات وتحقيق المصالح المترافقة مِن قبلهم، مع تجاهل لجوهر القضية السورية المتمثل بصراع شعب يريد استرداد حريته وحقه، ومنظومة استبدادية هاجسها البقاء في السلطة بأي ثمن.
ومع وصول الوضع في سوريا، بعد كل هذه السنين، إلى حالة استنقاع يستحيل فيها استمرار النظام؛ كان لا بد من محاولة أخيرة لإعادة تكريره، وطيّ صفحة إجرامه عبر الاقتراب العلني معه، مع عدم ممانعة مكتومة أو تأييد علني من قبل ماسك الخيوط الأساس. وهنا تحولت روسيا إلى “الدينمو” والمحرك الأساس لعملية التطبيع، طامحةً إلى منجز سياسي بعد أفعالها العسكرية في سوريا، التي ولّدت منها الخراب؛ ودبلوماسيتها في الساحة الدولية، التي جنت منها إبقاء النظام الأسدي حيّاً.
عملت روسيا على جبهتين في هذا الصدد: واحدة عبر استغلال مسار “أستانا”، لإحداث تقارب بين “النظام” وتركيا؛ وأخرى عبر جبهة الجامعة العربية. في الأولى استغلت روسيا علاقتها الخاصة مع تركيا، وانتخاباتها الرئاسية؛ وفي الثانية اعتمدت على غياب مشروع عربي تجاه القضية السورية، وعلى بهلوانية أحد الدول الخليجية ورغباتها التطبيعية الأوسع من التطبيع مع الأسد، والمتمثلة بطموحات للتطبيع مع إسرائيل وسحب الأسد بذلك الاتجاه، كتحصين وضمانات تحت خيمة “السلام الإبراهيمي”.
ولطالما حرص بوتين على تقديم أوراق اعتماده لإسرائيل، كي يضمن الرضى الغربي، ويُحكم قبضته على الداخل الروسي؛ وأن يحظى بقوة مميزة في الساحة الدولية؛ فلا بد أنه اعتقد بأن فعله “التطبيعي” لنظام الأسد، سيجد الطريق ممهدة عبر هذا المسار “الإبراهيمي” المنسجم مع التوجه الأميركي. ولسوء طالعه “لم يكن الليل كما اشتهى الحرامي”: