عقابيل الحرب الإسرائيلية الخامسة على غزة، والممتدة منذ 23 يوماً، ليست كما قبلها وفق المجريات، ولن تكون ما بعدها، كما اعتاد الاحتلال، المكاسب، إن على مستوى التعاطف والمساعدات وزيادة قضم الأراضي، أو حتى على صعيد المستقبل الذي يصل، هذه المرة، لتهديد الوجود وليس تعرية القوّة وكسر ظهر التطبيع والمهرولين.
فزوال “ربيع الوهم” وأضاليل الجيش الذي لا يقهر وتفوّق الاستخبارات، بعد صفعة “سرايا القسام” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بددت، ليس أوهام القوة والتميّز وحدهما، إنما أتت على اقتصاد استمرأ العيش على أكبر مساعدات أميركية وتخصيص تزويد صناعات دول كبرى بمكملات وقيم مضافة، لصناعات عسكرية وتكنولوجية، بعد استغلال جنان فلسطين الزراعية وأيدي المحتاجين الرخيصة.
وربما أي جردة حساب للخسائر الاقتصادية اليومية للاحتلال اليوم منقوصة، طالما أن الاستنزاف مستمر والنزيف متواصل، إن على صعيد الإنفاق العسكري وتهديم البنى التحتية، أو تراجع مؤشرات البورصة وسعر صرف الشيكل وغلاء الأسعار.
بيد أن ما يمكن الاستدلال منه، رغم استمرار الحرب والتوقعات بطول أمدها نسبياً، هي الخسائر البشرية بكيان لملم شعبه من أصقاع الأرض. فما تكشفه تقارير الهروب للموطن الأصلي، على قلتها، وما بينته خسائر الحرب، من قتل واعتقال وإصابات، تأتي ربما بمقدمة المخاطر الاستراتيجية على كيان عاش، ولا يزال، مخاطر الديموغرافيا ومقارنة عدد المستوطنين بسكان فلسطين الأصليين.
ويمكن، ضمن الدلالات، التطرق لإغلاقات المنشآت وهروب الشركات والاستثمارات، فعامل الأمان لهؤلاء هو أول شروط للجذب والديمومة، بصرف النظر عن الأرباح وتراكمها. والأمان تعرّى بعد سني الترويج و”بروباغندا” التطبيع والاستقرار.
كما من الجغرافيا يمكن الاستدلال على مخاطر تصل إلى حد العزلة إن لم نستعجل بنبوءة الزوال، والتي لم يعيها الكيان المحتل حتى اليوم، أو يقفز عليها على الأقل. فوجود شوكة إسرائيل بمحيط عربي وإسلامي إقليمي، هو خطر وجودها الدائم، بواقع استمرار فكر التوسع والهيمنة والاستقواء.
وهنا، يطول الشرح والتفسير لعدم إمكانية الاستمرار بالقفز على الحدود والجغرافيا، فأن يشارك فريق كرة القدم الإسرائيلي، كمثال بعيد، بالتصفيات ضمن الدول الأوروبية، يحرمها من الوصول لأي بطولة. وتصدير سلع إلى أوروبا والأميركيتين أو شرق آسيا البعيد، يزيد من التكاليف ما يخّسر السلعة قدرتها على المنافسة.. كما بتكاليف استقدام العمالة واستيراد المواد الأولية وسوى ذلك من عوامل قوة الاقتصاد ونموه المستمر.
قصارى القول: لم تعد نبوءات المؤرخين ببدء زوال إسرائيل، المستندة بعضها لمرجعيات روحية (التورات والتلمود)، دغدغة لمشاعر المقهورين أو إلهاء لاهوتياً للمهضومة حقوقهم والمحتلة أرضهم.
فلعنة العقد الثامن التي يتعاظم الحديث عنها بإسرائيل وخارجها اليوم، تخطت التنجيم والمقاربات، أو حتى القياس على غيبيّات وأمثلة مرّ بها اليهود، عبر عصورهم، بما فيها المزعومة المتخيّلة، منذ النبي داوود وفترة الحشمونائيم، وصولاً للنكبة واحتلال فلسطين عام 1948.
ومخاوف اللعنة التي تسري اليوم بإسرائيل، وساهمت، بشكل أو بآخر، بهروب المستوطنين الموعودين وقت استقدامهم بجنان الأرض وأرض الميعاد، عبّر عنها رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك أخيراً بكبرى صحف إسرائيل (يديعوت أحرنوت)، مفنداً تاريخ اليهود والدول المصطنعة التي لم تعمر أكثر من 80 عاماً، إلى أن وصل للدولة الصهيونية الحالية (التجربة الثالثة)، التي كان السعي والآمال بيهوديتها بعد تصويت الكنيست في يوليو/ تموز 2018، لتكون الثيوقراطية الفجة الثانية بالعالم بعد إيران، مبدياً خشيته من نزول لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتيها.
نهاية القول: بعيداً عن الغيبيات والروحانيات وحتى كراهية يهود داخل دولة الاحتلال وخارجها لإسرائيل وسلوكياتها العنصرية والمتطرفة التي نراها خلال مشاركة يهود بعديد من التظاهرات حول العالم المناهضة لمجازر الاحتلال.
ثمة واقع تفككي، طبقي اجتماعي وسياسي وديني، داخل الكيان الإسرائيلي، عمّقته الحرب على غزة اليوم، بعد الذي قيل عن قصة نجاح نادرة وقوة واقتصاد لا تتكرر، بظروف مثل التي تعيشها إسرائيل، ليأتي الاقتصاد بنزيفه البنيوي الهائل اليوم عاملا واقعيا معاشا، ليعيد لدولة الاحتلال رشدها ويعيدها إلى حجمها، إن لم يسرّع بتحقيق نبوءة العمر المفترض للمحتلين واستحالة الإيواء ببيت رابع لكيان يحمل أسباب زواله في أسباب وجوده.