بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وعدم إمكانيّة التفاهم الأمريكي – الإيراني على دور ما لإيران في الإقليم يبدأ من توقيع اتفاق نووي، بات أمراً مُحتّماً حدوث صدام ما في الشرق الأوسط (قلب العالم)، وإذا كان الصراع الروسي – الأمريكي صفرياً، فإنّ قناعة ما بدأت تَتَحكّم بالاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران مُؤدّاها أنّ زمن التخادم بملفات الشرق الأوسط قد ولّى وانتهى زمانه وأنّ عهداً جديداً لابُدّ أن يبدأ في الشرق الأوسط، وترى الولايات المتحدة أنه سيكون بدون روسيا وبدون إيران فيما تراه الأخيرتان أنّه لابُدّ من إخراج الولايات المتحدة من هذه البقعة من العالم.
كانت التموضعات الجيوسياسية الجديدة قد بدأت في الظهور في بداية عهد الرئيس الأمريكي الجديد، وازدادت وضوحاً بعد غزو بوتين لأوكرانيا، وأصبح أكثر وضوحاً بعد حرب 7 أكتوبر.
حسم السيطرة الغربية على الشرق الأوسط تُقوّي من أوراق النظام الدولي الذي تقوده أمريكا، وفقدان السيطرة أو الهيمنة عليه تُقوّي أوراق الآخرين الطامحين بإنزالها من عرش السيادة الدولية ومشاركتها فيها.
بدأ الحشد الأمريكي في المنطقة يزداد عُدّةً وعتاداً وبشكل تدريجي وأحياناً يكون علنياً بغية إرسال الرسائل كأن يَتمّ الإعلان عن تَوجّه غواصات إلى المنطقة (وتلك التحركّات تبقى سِريّة لو كانت روتينية) وتكرّرت زيارات القادة العسكريين الكبار للقواعد العسكرية في المنطقة (والشرق السوري بشكل واضح أخذ حِصّة كبرى من الاهتمام الأمريكي).
زار الرئيس بايدن المنطقة في صيف العام الماضي وعقد قمماً في السعودية مع ولي العهد السعودي (وبين الرجلين ما صنع الحداد) وقمتين أخريين مع قادة الخليج وبعض القادة العرب.
وكان تَحسّن العلاقة بين واشنطن وأنقرة يسير بتصاعد نحو طَيّ خلافات كبرى ببعض الملفات وكان الموقف التركي من الحرب الروسية على أوكرانيا ثم الموافقة على قبول انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي مع تزويد واشنطن لبعض طلبات أنقرة التسليحية إضافةً لتفاهمات هامة بين البلدين في شرق سوريا أتاحت لأنقرة تنفيذ ضربات مُهمّة لخصومها من حزب الـ PKK.
كان السباق الصيني – الروسي من جهة والأمريكي من جهة أخرى على كسب دول الخليج ووضع أقدامهما في المنطقة واضحاً، فقد زار الرئيس الصيني المملكة العربية السعودية في أعقاب زيارة الرئيس بايدن وعقد قِمماً مشابهة ومنافسة له، وبقيت العلاقات الخليجية الروسية (خاصة مع أبو ظبي والرياض) متينة وكانت المواقف الخليجية من الحرب الجارية في أوكرانيا أقرب للحياد، وصمدت منظمة أوبك بلس ولم تنهر بفعل الأعاصير الأمريكية عليها.
أيضاً كان موقف دولة الاحتلال الإسرائيلي من الغزو الروسي لأوكرانيا شبيهاً بالمواقف الخليجية واحتفظت تل أبيب بعلاقات جيدة مع موسكو أيضاً.
ومنذ أسابيع زار الرئيس الروسي الرياض وأبو ظبي في زيارة خاطفة وهامة وهي دليل على قوة العلاقات بينهما.
الحج الدبلوماسي الأمريكي (والغربي عموماً) كان مُستمراً للعربية السعودية على وجه التحديد قبل حرب 7 أكتوبر وازداد بعده، وكانت الجهود الأمريكية على وشك أن تُثمر في تحقيق اختراق نوعي في المنطقة يَتمثّل بالنجاح بإخراج التطبيع السعودي الإسرائيلي إلى العلن فيما إذا تَمّ الاتفاق ببن واشنطن والرياض على بعض الملفات بينهما وكانت تسير الأحداث باتجاه ذلك التطبيع وقد عبر الملك السعودي القادم عن ذلك بقوله علناً إنّ التطبيع السعودي – الإسرائيلي الآن أقرب من أي وقت مضى.
كان كثير من المراقبين يُرجِعون أسباب الحشد الأمريكي المتصاعد في المنطقة براً وبحراً، إضافةً إلى تحركات أمريكية في قاعدة التنف وتوسيعها وإجراء مناورات نوعية مع جيش سوريا الحرة إضافةُ لقيام مسؤولين أمريكان (سياسيين وعسكريين) في إجراء اتصالات مع قوى عربية في شرق الفرات لنيل تأييدها ومن ثم مُشاركتها بأيّ عملية برية لقطع الحدود السورية العراقية من عقدة البوكمال، إضافةً إلى ما تَسرّب عن استعانة أمريكية ببعض فصائل من الجيش الوطني الحليف لتركيا.
وقد عَبّر عدد من قادة محور المراوغة والكبتاغون (حسن نصر الله ونوري المالكي وغيرهما) عن خشيتهما من ذلك العمل وقال المالكي بالحرف الواحد إنّ ذلك العمل سَيُسقط نظام الأسد الذي بقي حَيّاً لِحدّ الآن عَبر تلك الحدود.
وبالطبع خوف محور المراوغة والكبتاغون من قطع محور إيران الإقليمي جُغرافياً بعد أن تم تعطيله جوياً عبر ضربات متتالية لمطاري حلب ودمشق.
وتمتاز سوريا بميزة إضافية عن باقي دول المحور الإيراني إذ إنها تَضمّ العدو اللدود لحلف الناتو وتُؤمّن قواعد روسية بحرية وجوية على الضفة الشرقية للمتوسط، حيث يرى بعضهم أنّ سقوط نظام الأسد سيطيح بكلا الاحتلالين (الروسي والإيراني) لسوريا.
كانت الضربة الاستباقية الإيرانية عبر حماس في غزة لخلط الأوراق وإفشال كل الجهود الأمريكية في المنطقة، ولإشعال صراع يهودي – مسيحي من جهة مع المسلمين، ومن جهة ثانية يُطيح بصورة الولايات المتحدة في المنطقة والعالم لأنّ طهران تعلم حجم الردّ الأمريكي/الإسرائيلي على هكذا عمليات وحيث أنّ حماس تملك بُنية عسكرية تتيح لها الصمود لأشهر أمام أي غزو إسرائيلي للقطاع وبسبب كثافة وجود المدنيين في القطاع والجنون والحمق والرغبة في الانتقام من قبل دولة الاحتلال المجروحة ستقع مجزرة كبيرة (وهذا ما حدث).
ولأنّ سير المعركة في غزة يسير بإتجاه تفكيك بنية حماس العسكرية وإنهاء حكمها للقطاع، حيث لم تُجدِ نَفعاً المشاغلة من قبل حزب الله والحوثي في ثني الولايات المتحدة عن تحقيق أهدافها من الحرب.
وكحرب استباقية لم يتوقف القصف الإسرائيلي في سوريا وتَحوّله مؤُخراً باتجاه استهداف كوادر قيادية تتبع لفيلق القدس وحزب الله وكان آخرها مقتل ضابطين مُهمّين للحرس في دمشق ومن ثم قتل الجنرال رضا موسوي الرجل المهم والمسؤول عن كل عمليات وإمداد الأذرع الإيرانية المحيطة بإسرائيل والأردن من سوريا ولبنان.
تُشكّل سوريا واسطة العقد في محور المراوغة والكبتاغون الإيراني وعبرها يَتمّ إمداد حزب الله في لبنان بكل ما يحتاجه حيث تُؤمّن سوريا التواصل الجغرافي بين طهران والضاحية الجنوبية.
وتملك سوريا حدوداً مع دولة الاحتلال طولها 76 كم مع الجولان المحتل، إضافةً لحدود مع الأردن بطول 375 كم.
ويرى بعضهم أنّ الحرب الدائرة على الحدود السورية الأردنية ليست عمليات لتهريب المخدرات ولا يقوم بها مهربون وقد دامت المعركة الأخيرة مع الجيش الأردني لثلاثة أيام متواصلة.
وتقوم الحكومة الأردنية بالإعلان عن تهريب أسلحة متوسطة وخفيفة والمخدرات غطاءً لها، أين ستتوجه كل تلك الأسلحة؟.
يرى بعضهم أنّ عمان هي العاصمة الخامسة المستهدفة من الحرس الثوري الإيراني كما أنّ تحويل الضفة الغربية لِغزة ثانية أو غزة جديدة هو الهدف المنشود من إرسال كل تلك الأسلحة وبالطبع ما يَمُرّ من كل ذلك السلاح هو أضعاف ما يمكن ضبطه، وليس صعباً العبث بأمن الضفتين الشرقية والغربية من الحرس الثوري واستغلال المظلومية الفلسطينية والاستثمار في مجزرة المدنيين في غزة، وطبعاً أنصار حماس الحاليين والمُحتملين كُثُر في الضفتين، هم الباب لإحداث كل تلك الفوضى هي الحدود مع سوريا.
بالطبع قَطَعَ العرب والغرب كلّ الآمال وشعرات معاوية بانفكاك نظام الأسد عن المحور الإيراني وأوقفوا كل الاتصالات معه وبات الحل المُؤجّل هو التخلص منه.
قد لا يكتفي الأطلسي وإسرائيل بالدفاع فقط وانتظار المكان التالي الذي سَتُورّطهم إيران به بعد غزة، ومن المُرجّح أن يلجؤوا لضربة استباقية لإضعاف محور إيران وبالتالي إضعاف دورها الإقليمي إذ أنّ قطع التواصل بين الحرس الثوري وأذرعه في سوريا ولبنان سَيشلّ قُدرته على شَنّ أيّ حرب إقليمية أو الدفاع عن تلك الأذرع.
إيران دولة ضعيفة لا تملك أيّ شيء من مُقوّمات الدول القوية وتسعى لأدوار خارج حدودها.
لا تملك جيشاً قوياً ولا اقتصاداً مُزدهراً ولا قوة دبلوماسية وحضوراً سياسياً ولا تملك مشروعاً جَذّاباً لدول وشعوب المنطقة.
إنّ كل قوة إيران عبر أذرعها الأخطبوطية العابرة للحدود في المنطقة واستثمارها في الصراع العربي – الإسرائيلي لتحقيق أهدافها وستستمر في استثمار ذلك الصراع وتَجيير الشعوب والحركات المسلحة السنية للعمل لصالحها.
ويوجد خشية عربية وغربية من مساع إيرانية لإعادة تأهيل الأسد كرمز عربي للمقاومة ضد إسرائيل، فهو ووالده لم يُبرما أي صلح مع إسرائيل ويرفعان شعار المقاومة، فمن المؤكد ستقوم حماس بقيادة التجييش ضد دولة الاحتلال على المستوى الشعبي الديني في أوساط السنة في العالم وقد يقود الأسد تيار المقاومة العربية العلمانية لإسرائيل، ويكون مُعرقلاً لتوسع اتفاقات إبراهيم أو إحراج العربية السعودية في التجاوب مع المساعي الأمريكية للتطبيع مع إسرائيل خاصةً بعد اعتقاده (الخاطئ) أنّ جرائم إسرائيل في غزة ضد المدنيين قد غسلت يديه من جرائمه ضد السوريين وذلك لبشاعة ووحشية الجرائم الإسرائيلية في غزة متناسياً أنّ ما قتله من السوريين في عقد من الزمان يفوق بأضعاف ما قتلته دولة الاحتلال من الفلسطينيين والعرب عموماً في قرن.
لاشكّ أنّ إضعاف حزب الله في لبنان سياتي من إغلاق حدود لبنان مع سوريا، ولا يملك الحزب أيّ قاعدة شعبية في لبنان للسير خلفه في حرب محتملة مع إسرائيل فالسنة والمسيحيون والدروز وأغلبية الشيعة ضِدّ أي خيار له في الحرب.
وبالطبع لن ترضى أي حكومة إسرائيلية (مهما كانت) بأي تعهدات إيرانية باحترام قواعد اشتباك بعد خرقها في غزة ويُمكن لحزب الله في لبنان أن يكون له طوفانه خاصةً أنه يملك من الإمكانات المادية والبشرية أضعاف ما تملكه حماس.
إنّ إضعاف محور إيران الإقليمي وتوجيه ضربة قاصمة وعقابية للحرس الثوري على ما قام به في غزة، وخوفاً من غَزّات أخرى فإنّ قطع المحور الإيراني من نقطة البوكمال يبدو خياراً معقولاً وتوجد إمكانات لتحقيقه، وهي قد تكون مَهمّة الحشد العسكري الأمريكي الحقيقية في البحر المتوسط والمنطقة عموماً، حيث لا حاجة لإسرائيل في حربها على غزة لكل تلك الأساطيل.
وبما أنّ الحرب على حزب الله وهو المُسلّح والمدرب جيداً والمتخفي في أنفاق تحت الأرض وبين المدنيين فوقها، وحيث أنّ الحوثي لا يُمثل تهديداً حقيقياً للمصالح الغربية والإسرائيلية نظراً لإمكاناته المتواضعة وعدم وجود عُمق جغرافي له يربطه بالمحور الإيراني بل هو مُحاط بالأعداء من كل ناحية ويمكن تجفيفه عبر حصار بحري خانق عليه أو تذويبه بعملية سلام داخل اليمن او فتح جبهات عليه من اعدائه اليمنيين في الجنوب والشمال.
إنّ الحشد الشعبي (الشيعي) العراقي هو اقوى من نظام الأسد المتهالك وتوجد معادلات كبرى ومصالح بين الولايات المتحدة وإيران في الحفاظ على النظام السياسي القائم في بغداد وعدم المجازفة بتغييره الآن.
وبما أنّ الساحة السورية هي المُفضّلة لإيران لإرسال الرسائل فيها ومنها، والدفاع عن حدودها كساحة متقدمة وجعلها الساحة المفضلة للمنازعات والتهديد من تلك الساحة في شَنّ أيّ حرب إقليمية، حيث كانت أغلبية الـ 170 استهداف للقواعد الأمريكية (بعد 7 اكتوبر) في سوريا والعراق تأتي من ميليشياتها في سوريا.
قد يكون قطع الذراع الإيراني في سوريا عبر إسقاط نظام الأسد هو الحل الأسهل والأقل تَكلفة والأجدى نفعاً للولايات المتحدة ومن معها لإلحاق هزيمة قاسية بإيران.