لا وصف يليق بالانزياح، بعد نسف جميع المفاهيم والتقاليد والقوانين الدولية، من المنظمات الدولية، القانونية والإنسانية، مروراً بالأشقاء العرب وصولاً إلى دول لبست ثوب العدالة والديمقراطية لعقود، سوى “يا عيب الشوم”.
لأن العيب والعار، جراء الصمت والتآمر والمشاركة بإبادة الفلسطينيين في قطاع غزة، يطاول أول من يطاول أهل بلاد الشام، الأشقاء والجيران ومن ثم أرض الكنانة التي تغلق إكسير الحياة “معبر رفح” وتأتمر بالعدو لتفتحه، بعد إذلال التهديد بالقصف والتفتيش.
ولا ينتهي العيب عند الغرب الذي يتشدق عبر عقود، بالعدالة والحريات وحقوق الإنسان، ليأتي “طوفان الأقصى” فيعري فيما عرّى، تلك الأضاليل ويكشف الانحياز الأعمى المطلق، للقاتل المحتل.
وأما أن يصل العيب حد تعليق تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، لمنع مد يد العون لـ “بشر” ممنوع عليهم، منذ نحو أربعة أشهر، جميع أسباب البقاء على قيد الحياة، وتقصف غزة ليل نهار، ولا مصدر لهم أو مموّل، سوى “أونروا” فهذا ما لم يخطر على بال الأولين ليطلقوا له مثلاً مناسباً، لأن “المبهدل لا يهمه سواد الوجه” جد لطيف وكيّس ووديع، ولا يفي حقوق الممثل له.
ويكتمل مشوار دهشة العيب، حينما تتعرّف على الدول (الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا…) التي ضنّت على الوكالة بفتات الأموال، ليبقى نيف ومليون إنسان، على أدنى حواف الكفاية الغذائية والعلاجية والحماية.
قصارى القول: تتركز الذريعة التي أطلقتها إسرائيل، على أن 12 موظفاً من أصل نحو 30 ألف عامل في المنظمة الأممية، شاركوا في هجوم “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على غلاف غزة المحتل “ثلاثة خطوط تحت محتل” لتسارع “أونروا”، قبل صدور نتائج التحقيق الفوري التي فتحته، لفصل 9 من هؤلاء المتهمين بعد إنهاء عقودهم.
لن نكون من السذاجة لنقول، لينتظروا صدور التحقيق ويفصلوا أو يعلّقوا، فالمتهم الفلسطيني مدان ومجرم على الدوام، بل نسأل لماذا جاء القصاص بحجم الحقد والخطط المبيتة ولم يأت بحجم الذنب؟
إن أقررنا جدلاً بالذنب، لنصل إلى ما ذنب أكثر من مليوني فلسطيني ونحو 13 ألف عامل في المنظمة بالقطاع، ليُحاربوا بكسرة خبرهم ومأواهم وأبسط الخدمات الممنوع على غير “أونروا” بواقع العدوان والقصف، الدخول لمذبحة غزة أو تقديمها.
حتى إن ذهبنا بعيداً، لنربط قرارات الدول الديمقراطية بمحاصرة وإضعاف “أونروا” التي قتل الاحتلال 152 من موظفيها، وتشويه سمعتها، وصولاً إلى نسف القضية الفلسطينية برمتها أو معاقبة الأمين العام للأمم المتحدة على تصريحاته، تخرج علينا زيادة الدول المعلقة لتمويل “أونروا” “تحديداً” مساعداتها للكيان المحتل بجرائم الإبادة، سواء من أسلحة أو معونات مالية وعينية، لتزيد من “العيب” وتعرية دعاة الحرية وحقوق الإنسان وضلوعهم بعقاب جماعي وإبادة شعب، وتنفيذ تطلعات إسرائيل التي أعلنتها صراحة عبر رئيس دبلوماسيتها، يسرائيل كاتس، لمنع وكالة أونروا، من العمل في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، ولن يكون لها دور في المرحلة التي تلي الحرب.
نهاية القول: لم يعد الموضوع فيزياء أو يحتاج المخمخة والتحليل، فالغرض نسف الوكالة التي تأسست وفق القرار 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 1949، بهدف تقديم الإغاثة والتشغيل للاجئين الفلسطينيين، بالأردن ولبنان وسورية والأراضي الفلسطينية، وجاءت تالية للقرار 194 لعام 1948 المؤكد لحق اللاجئين العودة إلى فلسطين وحق التعويض. ومنع تمويل أونروا سيساهم بشكل كبير ومباشر، بتصفية كامل القضية، وإن اختلفت الصيغ، من حرق وإبادة وترحيل، أو بناء جزيرة بعرض المتوسط.. أو حتى الوصاية على القطاع بعد تقليص مساحته عبر ما يقال اليوم من تجريف وتوسيع للمنطقة العازلة.
ثمة ثلاثة أسئلة هنا، تتوثب على الشفاه، أولها عن سرّ تزامن قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي قبل أيام “بتدابير لوقف الإبادة وإدخال المساعدات الإنسانية”، بتتالي قرارات الدول الديمقراطية بتعليق تمويل “أونروا”، وهذه المنظمة من المفترض، أن تشرف وتساهم، إن لم نقل وحدها، بإدخال المساعدات التي جاءت ضمن توصيات المحكمة الدولية.
والسؤال الثاني الذي يوجه إلى الدول الديمقراطية المعلقة لتمويل المنظمة، من برأيكم ووفق تقاليدكم وما تدعون، سيتكفل، بعد تصفية “أونروا”، بزهاء مليوني إنسان، بعد قطع الماء والكهرباء والغذاء، بل وضرب مدارس ومرافق “أونروا” نفسها تؤوي عشرات آلاف النازحين معظمهم من الأطفال والنساء.
إذ من أكثر الأضاليل استفزازاً والذي يوازي ما نسمعه من واشنطن بتوصيتها إسرائيل بذل الجهد لتحييد المدنيين، أن إسرائيل تعلم أصحاب المنازل بأنها ستقصفهم، وعليهم المغادرة، ولكن من دون أن يسأل أو يجيب أحد، إلى أين يمكن أن يذهب هؤلاء، والذين كانوا يجدون في مرافق “أونروا”، بعض ملاذ وإن غير آمن مطلقاً.
وبعيداً عن الاستمرار بالسذاجة والتعويل بالحلّ على الخصم والقاتل والمخطط، نسأل عن دور الدول الأعضاء في الأمم المتحدة جميعها، والعرب أولاً، عن إمكانية تعويض مساعدات الدول المعلقة لتمويل “أونروا”، فالميزانية الكلية للمنظمة عام 2023 لم تزد عن 1.6 مليار دولار وربما حصة قطاع غزة لا تزيد عن 481 مليون دولار، وهي بالمقاييس العملية لا تصل إلى تكاليف تنظيم بطولة رياضة أو شراء نادي قمار أو تصل إلى حجم التبادل لدولة عربية مطبّعة مع الاحتلال الإسرائيلي.
إنّ تعريف “أونروا” للاجئين منذ تأسيسها “هم أولئك الأشخاص الذين كانت فلسطين هي مكان إقامتهم الطبيعي خلال الفترة الواقعة بين يونيو/ حزيران 1946 ومايو/ أيار 1948، والذين فقدوا منازلهم ومورد رزقهم نتيجة حرب عام 1948″، وبنسف هذه المنظمة… يسرّعون بنسف حق العودة وبالتالي القضية برمتها.