تجربة ناجيةٍ من جحيم الاعتقال، تحكي عن توثيق تجربتها وما يرافقه من تحدياتٍ وتأثيراتٍ شخصيّةٍ في الزنزانات وما بعد النجاة
هل حاولْت إقناعَ جدارٍ بوجهةِ نظرٍ ما، أو شكوْت إلى بابٍ متاعبَ الحياة؟ نعم، وجدتُ نفسيَ يوماً أَبُثُّ مكنوناتي أرواحَ مَن خَلّدوا أسماءَهم على جدران الزنزانات وأبوابِها في السجون السورية.
بدأت الحكايةُ لحظةَ وقوفي بينَ جموع المتظاهرين والمتظاهرات في شارعِ العَمارة بدمشق عامَ 2011، وأنا في بداية الثلاثينات من عمري. ما زال ناقوسُ تلك اللحظةِ حاضراً يدقُّ في مسمعي أصواتَ الجموعِ وهي ترتفعُ مطالبةٍ بالعدالة والحرية. ثم ما لبثَت أن توتَّرت الأجواءُ عندَ اقتحامِ قوَّاتِ الأمنِ المكانَ. قَبضوا عليَّ وزَجُّوني بين امرأتين في صندوق سيارة شرطةٍ ضاق بنا، أو ضقنا به. كان الصندوقُ مظلِماً، ورائحةُ الخوف والبنزين تُخالِط أنفَاسَنا. بعد رحلةٍ تَخلّلها وابلٌ من اللّكمات والشتائم وصلْنا إلى فرع الأمن الجنائي في دمشق. قضيتُ فيه أربعةَ أيامٍ أُسامُ سُوءَ المعامَلة. أثناء التحقيق لَم ينادِني المحقِّقُ باسمي أبداً، بل كان يناديني “العاهرة”. اتُّهِمْتُ بـ”إثارة الشغب”. تذكرتُ حينَها كيف كنتُ أُثير الشَّغبَ في صِغَري دفاعاً عن مساحتي الشخصية وحقوقي في الحصول على مصروفي اليومي، لكنّ شغبي هذه المرّة كان أشدّ.
في فبراير 2012 اعتُقِلْتُ مرّةً ثانيةً في فرع أمن الدولة، المعروف بفرع الخطيب. ثم نُقِلْتُ بعد بضعة أيامٍ إلى فرعِ إدارة المخابرات العامَّة في دمشق. كانت هذه المرَّةُ أشدَّ وطأةً؛ إذ دام اعتقالي شهراً بتُهمة دعمِ المسَّلحين والدعوةِ إلى تغيير الدستور. وحيدةً في زنزانتي التقيتُ حينَها “لينا”، أو بالأحرى آنَسْتُ اسمَها وبَيتاً شِعريّاً من قصيدةٍ ثوريةٍ حَفَرَتْها على الجدار، كأنَّها تحاولُ به البوحَ بقصّتها. بدأتُ أتبادل معها النكات والحكايا وآخرَ الأخبار، وكأنّ حروفَ اسمِها وبيتَها الشِعريَّ على الجدار تَنْطق. وفي آخر الليل، عندما تهدأ أصواتُ التعذيب القادمةُ من الخارج، أسردُ لها بعضَ تجاربي العاطفية الفاشلة وكأنَّها تُصغي إليَّ وتَهمسُ متعاطِفةً تارةً ومستهزِئةً تارةً أُخرى.
كتبتُ اسمي جوارَ اسمِها بقلمٍ وجدتُه في الزنزانة، ورسمتُ يدي وكتبتُ “نحن الثورة والغضب. نحن أمل الأجيال”. لَم يمضِ وقتٌ طويلٌ قبلَ أن يَكتشف مديرُ السجن هوايتي الفنّية الجديدة بكاميرا مراقبةٍ مثبتةٍ في زاوية الزنزانة. قال لي ساخراً: “أووه، عم تفكري تعملي معرض بباريس مثلاً؟” ثم بأسلوبٍ قاسٍ ومُهينٍ أجبَرني على محو لوحتي الفنّية بلساني. كانَ طعمُ الجدارِ والحِبر مالحاً أحياناً ومُرّاً أحياناً أخرى كمرارة القمع والمذلّة. مع ذلك، كتبتُ اسمي بجانب اسمِ لينا قُبَيْلَ مغادَرتي. ثم أَضفتُ “سوريا يا وجعي”، وودَّعتُ المكان.
على هذه الجدران بدأتُ تَّوثيقَ تَجرِبَتي في المُعتقَلِ أوّلَ مرّة. فشهاداتُنا المرسومةُ لَم تكن بحاجةٍ إلى إطاراتٍ ذهبية أو مَعارضَ فخمة، فقد كُتبَت بالدمِ حاملةً بين طيَّاتها إرادةَ الحياة. لم يكن توثيقُنا يشبه تلك الوثائق الرسمية المليئة بالتفاصيل والشروحات الطويلة، بل كان مقتصراً على أسماءٍ وأرقامِ هواتف وتواريخَ وعباراتٍ وجدولٍ بسيطٍ لعدّ الأيام، وكأننا نَقترع أيّنا ستطول إقامتُه هنا أكثر، وبعضِ الرسومات الصغيرة التي قد تجدُ رُكناً في مَعرض زنزانتنا “الباريسيّ”.
عندما خرجتُ من بواباتِ السجن الثقيلة، لم يكن استقبالُ الحريّة كما تخيّلتُه؛ فقد قُطِّعَت شوارعُ دمشق بالحواجزِ العسكريةِ، وانتشرت أعينُ المخابرات التي تراقِب كلَّ همسةٍ، مطبقةً على الأنفاس. وسْطَ هذا الكابوس وجدتُ “لينا” على الفيس بوك، تلك الروح التي عرفتُها مِن الحروفِ المحفورةِ على جدرانِ زنزانتِنا الباردة والصامتة، ثم التقيتُها. وَقَفَتْ لينا بإزائي روحاً ودَماً، كما لو أنَّ الكلمات التي كانت تتردَّدُ بيننا خلفَ القضبان قد تجسَّدَت فجأة. كان لقاؤنا يفيضُ مشاعرَ مختلطة؛ إذ صوّرتُها في عقلي بتلك الأحاديث المتخيَّلة ثم ها هي الآن قبالتي، ثائرة ومثقفة وذات حضورٍ خفيفٍ ظريفٍ كما تخيّلتُها دائماً. ومع الصعوبات التي حَفّت لقاءَنا كانت روحُها المرحةُ تبعثُ الحياةَ في الأجواء الكئيبة المحيطة بنا.
لَم تكُن هذه المرّةَ الوحيدة التي اعتُقلنا فيها أنا ولينا؛ فقد أعادوا الكرّةَ معنا. تكرّرت اعتقالاتُ النساءِ منذ 2011 وحتى اليوم. وقد وردَ في تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر عامَ 2023 أنّ 8962 امرأةً ما تزالُ محتجَزةً في سجون النظام السوري. وارتُكِبت 8019 حادثةُ عنفٍ جنسيٍّ، منها 881 في مراكز الاحتجاز و 443 ضدّ فتياتٍ دون الثامنة عشرة. جعلني اعتقالي وما ذُقتُ فيه من إهانةٍ أُدرِكُ مدى الظلمِ الذي تُسامُه النساءُ. تحدَّثتُ بعد خروجي مع صحفيين وحقوقيين وأدركتُ أهميَّةَ توثيقِ هذه الجرائم، فالتوثيق خطوةٌ نحوَ العدالة والتعافي. لذا قررتُ أن أُسْهِمَ في هذا الجهد، على ما فيه من تحدّياتٍ ومَخاطِر. وأعني بالتوثيق ههنا صُوَرَهُ المختلفة من كتابةٍ على جدران السجون، وحديثٍ مع الصحفيين، والعملِ صَحَفِيَّةً تسمعُ قصصَ الضحايا، ومشاركتي في مسرحيةٍ عن تجرِبتي، فضلاً عن توثيق المؤسّسات – على علّاته – والمحاكَمات. كلُّ تلك وسائلُ لا غنىً عنها للضحيّة؛ وسائلُ للنجاة كما لتحقيق العدالة.
كان الاعتقالُ الثالثُ على أحد الحواجزِ بين دمشقَ وريفِها في التاسع من يونيو عام 2013. يومَها أوقَفَنَا الأمنُ، أنا وصديقي خالد، لأنني أحملُ بطاقةً صحفيَّةً مكتوبٌ عليها “برِسّ”. اعتقَدوا أنَّني أعمل لدى إحدى الصحف العالميَّة. حاولتُ إقناعَهم أنني أعملُ مع إذاعةٍ سوريّةٍ اسمها “روزنة” لكن دونَ جدوى، إذ أنَّ الإذاعةَ التي أعملُ بها غيرُ مرخَّصةٍ في دمشق، أي تُعَدُّ إذاعةً معارِضة. اقتادونا إلى فرع المخابرات الجوية حيث أمضيتُ عشرةَ شهورٍ خلف القضبان، كأنّها دورةٌ مكثَّفةٌ في فنِّ النجاةِ، عُذِّبتُ فيها بأساليب تعذيبٍ مختلفة. في تلك الزنزانة التقيتُ نساءً من مختلف الطبقاتِ والفئاتِ والمشاربِ الفكرية، ممَّا عمَّق إدراكي لظلم النظام الاستبداديِّ والهياكلِ الاجتماعية والقانونية لأولئك المعتقَلات. دفعتني هذه التجرِبةُ إلى اعتناقِ النِسْويّةِ أسلوبَ حياةٍ، والإيمانِ العميقِ بقضايا النساء، وبضرورةِ إسماع أصواتِهِنَّ وإعلاءِ قِيمةِ تجاربهن.
وجدتُ على جُدرانِ الزنزانة في فرع المخابرات الجوية أسماءً وحكاياتٍ جديدةً. كلُّ اسمٍ منها حَمَلَ شيئاً مِن روح صاحبه أو صاحبته. وقبلَ نَقْلِي إلى زنزانةٍ جديدة، كتبتُ اسمي على الجدار ووقّعتُ تحتَه “سوريا يا وجعي” ثم غادرتُ المكان، تماماً كما فعلتُ في اعتقالي الأوّل.
كانت جدرانُ الزنزانات تروي قصصَ الشوقِ للأهلِ والأحبَّة، وأحلاماً بمستقبلٍ أفضل. شرعتُ أحفظُ الأسماء التي حَفَرَها أشخاصٌ ربما أرادوا للعالَم أن يَعلم بمرورهم من هنا، لعلِّي أستطيع يوماً ما، إذا خرجتُ، التواصلَ مع عائلاتهم لأطمئِنَهم بأنّ ابنهم أو ابنتهم ربّما أحياء.
وبما أننا لَم نملك الفرصةَ لتعلّم الهيروغليفية، فقد استعملنا الرموزَ لعدّ الأيام مكْتَفين بالخطوط الأربعة الأفقية والخامس الذي يقطعها، أو المربَّع الذي يَشُقُّه قُطْر. كان توثيقُ الأيام ضرورةً؛ فقد تداخلَت الأيامُ ببطءٍ محبِطٍ وتناثرت الليالي في عتمةٍ لا نهايةَ لها. كانت تلك الخطوطُ أيامَنا وسبيلَنا للحفاظ على الوعي بالزمان والمكان في هذا السجن القاسي.
تَناقشنا في السجن ذاتَ مرَّة عن سبب استعمالنا هذه الرموزَ بالذات. قالت إحداهنَّ: “إننا نسير على خُطى مَن سبقونا”. لكن استناداً إلى خبرتي في تدريس الرياضيات أكثرَ من عقد، أعتقد أن السبب هذا امتدادٌ للخوف والتعنيف الذي يرتكبه معلِّمو ومعلِّمات الرياضيات بحقِّ تلاميذ الصفوف الابتدائية بُغيةَ تعليمِهم جدولَ الضرب. وكان جدولُ الخمسة الأسهلَ على الجميع، لذا اخترنا استعمالَ مضاعَفات الرقم خمسة لتسهيل حسابِ أيّامِنا. ربما كان ذلك بحثاً عن البسيط وَسْطَ تعقيداتِ أوجاعِنا.
لَم تكُن الجدرانُ الطريقةَ الوحيدة للتوثيق في السجن، إذ استعملنا أيضاً دفتراً من “كيس الخبز” مثلاً. في أحد الأيام وجدتُ قطعةَ عظمٍ صغيرةً مسنَّنة. كانت هذه، وغيرُها من الأدوات المشابهة التي قد نجدُها هنا وهناك، كنزاً في مكان يُحرَم فيه الإنسانُ من أبسط الأدوات الأساسية. لَم نتردّد في استعمالها لنحفر أسماءَ عائلاتِنا وأرقامَ هواتفِهم على أكياس الخبز، على أملِ أن تصلَ إحدى هذه الأكياس إلى خارج السجن وتخبرَهم أننا ما زلنا أحياءً. صار كيسُ الخبز دفترَ مذكّراتٍ سمَّيناهُ “دفتر الخبز”. أخفيتُه بين ثيابي لحظةَ الإفراج عنّي لكن لَم يخرج معي، إذ فُتِّشتُ أثناء خروجي ووَجَدَهُ الضابطُ فأَمَرني بالتخلّص منه لئلا أُرَدّ إلى السجن ثانيةً. فما كان منّي إلا أن رميتُه متسائلةً بألمٍ: “لماذا نُحرَم مِن أبسط حقوقنا؛ مِن أن نكون مرئيات وأن تَعلم عائلاتُنا بمكاننا؟”
في هذا النسق من التوثيقِ كنَّا نخطو خطواتٍ صغيرةً نحوَ استعادة هُويّتنا التي حاول النظامُ السوريُّ محوَها بالاعتقال. كلُّ اسمٍ وكلُّ رقمِ هاتفٍ وكلُّ تاريخٍ وكلُّ علامةٍ على جدول الأيام كانت تُعيد إلينا جزءاً من ذاتِنا، وتؤكِّد لنا وللعالَم أننا ما زِلنا هنا، نعيش ونأمل.
رأيتُ في الطقوس الصغيرة في زنزانتي توثيقاً لا يَقلُّ أهمِّيَّةً عن التَّوثيقات الحقوقية والإعلامية. إنها فعلُ مقاوَمةٍ، وطريقةٌ للقول أننا هنا، عِشْنا وناضَلْنا ولن يُمْحى وُجودُنا. لذلك بدأتُ أفكّر في زنزانتي كيف ستغدو هذه الجدرانُ، وكيف يمكنُني تحويلُها إلى شهاداتٍ حيّةٍ تروي قصصَ الظُّلم والصَّبر. هذه الجدرانُ التي كانت ملجأً لأحلامنا وآمالنا، كيف يمكنُنا أن نحوّلها إلى متاحفَ تُخلِّدُ ذِكرانا وتَحكي قصصَنا للأجيال القادمةِ وتَروي حكاياتِ السوريين والسوريات التي عاشت، وربما ماتت، في غياهب السجن. كنتُ أَرَى هذه الجدرانَ، بدموعِها ودمائِها، أصدقَ شهادةٍ للتاريخ.
بعدَ خروجي من المعتقلِ في المرّة الثالثة، وفي الشهور الستّة الأُولى من وصولي تركيا في الثاني من أبريل عامَ 2014 أُجرِيَت معي مقابَلاتٌ إعلاميةٌ مكتوبة ومسموعة ومرئية تحدّثتُ فيها عن فترات اعتقالي الثلاث، لا سيّما الأخيرة التي استمرّت عشرةَ شهور. وشاركتُ في توثيق الانتهاكات التي مورِسَت عليَّ مع أربع جهاتٍ حقوقيَّةٍ سوريّة ودوليّة. عَرَّفتُ هذه المنظماتِ وعَرَّفَتني بآخَرين وأُخْرَياتٍ ممَّن اعتُقِلوا واعتُقِلْن سابقاً أو من وسائل التواصل الاجتماعي.
المنظماتُ الحقوقيةُ في سوريا كغيرِها من المنظمّات في بلدانِ العالَم التي تعيشُ تحت وطأةِ النزاعات، لها أثرٌ بالِغٌ في الدفاع عن حقوق الإنسان وتوثيق الانتهاكات. نشأَتْ هذه المنظماتُ ردّاً على الانتهاكاتِ الممنهَجة والواسعة التي يرتكِبُها النظامُ السوريّ، وبهدفِ تحقيق العدالة وضمان عدمِ إفلاتِ المجرِمين من العِقاب. تنشأ هذه المنظماتُ غالباً من مبادَراتٍ محلّيةٍ يقودُها ناشطون ومحامون سوريّون يَرصدون الانتهاكاتِ ويَجمعون الأدلّة.
تطوَّرت بعضُ هذه المنظمات شيئاً فشيئاً لتصِلَ إلى المعايير الدولية في التوثيق باعتماد برامجَ تدريبٍ مكثَّفةٍ لأعضائها وعضواتها من خبراء دوليين ومنظّماتٍ متخصّصةٍ في مجال حقوق الإنسان تشمل مجالاتٍ مثل الرصد الميداني والتحليل القانوني وإدارة البيانات والأمن الشخصي والرقمي.
في السنوات الأخيرة أَدرَكَت المنظماتُ الحقوقيةُ السوريةُ أن التركيز على النساء المعتقَلات بالتوثيق وحده لا يكفي، إنما يجدر الاهتمام بخصوصية تجاربهنّ أيضاً، وتكييف الأدوات والنهج المتبع في العمل ليتماشى مع هذه الخصوصية. لَم تَنْفِ هذه المنظماتُ بأن النساءَ أكثرُ تضرّراً في النزاعات، بما في ذلك تعرُّضُهن للعنف. وصدرَ تقريرٌ للشبكة السورية لحقوق الإنسان يكشِف عن العنف في استهداف قواتِ النظام السوري الإناثَ بالاعتقال على أساس جنسهنّ. فمثلاً قَبضت قوّات النظام على النساء واحتجَزوهن للسيطرة على المناطق وإخضاع الأُسَرِ لسلطة النظام. واعتُقِلت النساءُ لدَورهنَّ في التظاهرات والأنشطة السلمية المتنوّعة. وفي حالاتٍ أُخرى اعتُقِلن لانتمائهنَّ إلى منطقةٍ معيَّنةٍ أو طائفةٍ أو عِرق. وفي حالاتٍ عديدةٍ عُنِّفَت النساءُ جنسيّاً وابتُزِزن مادِّيّاً ومعنوياً ضِمن سياسة العقاب الجماعي. لذا أصبح تكييفُ الأدوات والأسئلة والمناهج التي تُراعي خصوصيةَ النساء أمراً ضروريّاً لفهم الانتهاكات بصورتها الكاملة وإيجاد حُلولٍ تُعنى باحتياجاتِ النساء وظروفهنّ.
ما تقومُ به المنظماتُ الحقوقيةُ أساسيٌّ لكنه ليس كافياً بعدُ، إذ تُواجِه الناجين والناجيات والعاملين في هذا المجال تحدّياتٌ ومخاطرُ كبيرةٌ ومتعددةُ الأبعاد. ومِن ذلك، صعوبةُ جَمع الأدلّةِ والشهاداتِ ونقصُ المواردِ والمخاطرُ الأَمنيةُ والعوائقُ الثقافيةُ والاجتماعيةُ وغيرُها.
كان لتوثيقِ تجربةِ الاعتقال أثرٌ كبيرٌ عليّ؛ إذ أتاحت لي فرصةً للتعبيرِ عن تجربتي والبوح بما حاقَ بي من ظلمٍ، وساعدَتني في التغلّب على صدمتي النفسية. وكان التوثيق فرصتي للتعبير عن الذات والتوعية بقضية الاعتقال والإخفاء القسري في سوريا، لا سيما وقد رفضت أغلب المعتقَلات السابقات الظهورَ والتَّحدُّث عن تلك التجارب المؤلمة والصعبة التي مرَرْنَ بها. كانت التجاربُ غالباً تحدّياً للقِيَم الاجتماعية والثقافية، لذا تخشى المعتقلات انتقادَ المجتمع أو تهميشَهنَّ أو مواجهةَ صعوباتٍ كالعثور على فرص عملٍ أو الانخراط في نشاطٍ اجتماعيّ أو تولّي مناصبَ قيادةٍ اجتماعيةٍ أو تأسيس علاقات اجتماعية مزدهرة بسبب سجلِّ اعتقالٍ يترافقُ معه الوصْمُ والتمييز.
بدأَت تراودني التساؤلاتُ عن أهمّية توثيق تجربتِي ومَدى اعتبار التوثيق ومساهمتِه في القضايا التي أدعمُها. فقد أثارت في نفسي مشاعرَ سلبيةً أحياناً، وكنتُ أشعُرُ أنّ الموثِّقَ يسألني لأداء وظيفته فحسب، أو لتحقيق أهداف المنظمة التي يعمل بها بزيادةِ رقمٍ في القائمة. لَم أشعُر بجدوى تَكرار التوثيقِ سواءً عند الجهة نفسها أو عند جهاتٍ مختلفة.
كثيراً ما واجهتُ مواقفَ مزعِجةً كلقائي مع إحدى العاملات في التوثيق الحقوقي. سألَتني بعد أن سمعَت منّي تفاصيلَ كثيرةً عمَّا إذا عُنِّفْتُ جنسيّاً. توتّرتُ حينَها وتحفّظتُ وعبَّرتُ عن رفضي الإجابةَ، لكنها لَم تفهم وأعادت السؤالَ بأسلوبٍ مختلف، فقلتُ لها إنني لستُ مستعدّةً للحديث عن هذا الموضوع حاليّاً؛ ربما في وقتٍ لاحِق. كان هذا الإصرارُ مزعِجاً لي، وغيرَ محترِمٍ خصوصيَّتي. تكرّر ذلك أيضاً في مقابلةٍ مع قناةٍ تلفزيونية فرنسية أرادت المذيعةُ حينَها بأسئلتها أن تستنطقني لأقول أنني اغتُصِبتُ. وعندما فَشلَتْ في ذلك، لَم تَنشُر المقابَلةَ. أعادتني تلك الحادثةُ إلى يومِ أُفرِج عنّي. سألني أخي وقتئذٍ عمّا إذا اعتُديَ عليَّ جنسيّاً. أجبتُه بالنفْي لكنّه لَم يصدِّق، وأصرَّ على أنه لن يقتنع أحدٌ بذلك.
كَشفَتْ هذه التجاربُ عن التناقضِ في التعاملِ مع الناجيات. فإذا لم تُعنَّف الناجيةُ جنسيّاً عموماً، ولم تُغتصَب خصوصاً، فقد لا تجدُ قصّتُها أُذناً صاغية. بينما إذا تحدّثَت عن الاغتصاب، فقد توصَم اجتماعيّاً وتُنبَذ، وربّما تُقتَل عند بعض العائلات. وأثارت عندي تساؤلاتٍ عميقةً عن مصداقية بعض القصص المرويّة واحتمالية المبالغة فيها أو حتى تزييفها. فهل يمكن لبعضهم، رجالاً أو نساء، أن يَختلق تفاصيلَ لَم تحدُث لهم شخصياً، أو أن يستعيروا أحداثاً من قصصٍ سمعوها لإضفاء الإثارةِ على قصَصِهم لعلّها تؤخَذ على محمل الجدّ، أو سعياً لجذب الانتباه أو التأثير في الرأي العامّ أو تحقيق أهدافٍ شخصيّة.
أدركتُ أهميةَ صوتِ الناجين والناجيات في حَبْك السرديّات عن التجارب الصعبة والانتهاكات التي طالتهم، على ما في ذلك من تحدّيات. دائماً ما أَستحضِرُ أن قِصّتي هي قِصّتي التي أَمْلكُ وحديَ الحقَّ في كيفية مشاركتها واختيار الزمان والمكان المناسبَيْن لذلك. وهذا تحديداً ما جعلني جَسورةً وواثقةً في مواجهة التحدّيات والمُضِيّ قُدماً في رحلة التوثيق.
عدتُ في تركيا إلى العمل صحفيةً إذاعيةً في إذاعة “روزنة” التي ذكرتُها آنفاً، وهي إذاعةٌ سوريةٌ مستقِلَّة. أصبحتُ الموثِّقة في الإذاعة، فأعددتُ وقدّمتُ برنامجاً أسمَيتُه “عتم الزنزانة”. يحكي البرنامجُ عن قدرةِ الإنسانِ على الصُّمود، ويقدِّمُ منظوراً جديداً عن الحياةِ في السّجون. أنتجتُ مئةَ حلقةٍ تقريباً، تنوّعَت فيها الموضوعاتُ. وناقشتُ قصصاً حقيقيةً تلخِّص أساليبَ المقاومة وكيفيةَ الحفاظ على الكرامة مع قسوة الحياة. بحثتُ في كيفيةِ التَّعاملِ مع العُزلة والتعذيب، وناقشتُ الاختلافاتِ بين الفروع الأَمنيّة، وبينها وبين السجون المدنية. وتطرَّقتُ إلى التحدّيات التي تواجهُها المعتقَلاتُ خصوصاً، مثل نظرةِ المجتمعِ، وصعوباتِ الاندماج فيه مرّةً أُخرى، والأثرِ النفسي العميق الذي يتركُه اعتقالُهنَّ على المدى البعيد، ومواضيعَ أُخرى مختلفة.
لَم يكُن إعدادُ البرنامج وتقديمُه مهمّةً سهلة. فلإعداد حلقةٍ ما، كنتُ أحدِّدُ الزاويةَ التي أَرغبُ في استكشافها، مثل حلقةٍ ناقشتُ فيها تعاملَ المجتمع مع المعتقَلة بعد نَيْلها حرّيتَها، ثمّ أَبحثُ عن المشاركين والمشاركات. في تلك الحلقة تواصلتُ بالفيسبوك مع “مريم”، شابّة كانت تعيش في أنطاكيا التركية، عانت من رفضِ عائلتها ومجتمعها بعد الإفراج عنها، وطلَّقَها زوجُها أثناء اعتقالها وحَرَمَها من أطفالها بعدما أُفرِجَ عنها. في هذه المرحلة من العمل، من المهمِّ جداً بناءُ الثَّقة مع الناجين والناجيات. وهذا كلُّه يتطلَّبُ وقتاً وصبراً. كنت أتواصل مراراً وأُبدي اهتماماً صادقاً بتجاربهم وتجاربهن. وعلى ما في ذلك من إرهاقٍ عاطفيّ، كنتُ أشعرُ بالإنجاز عندَ تأسيس علاقاتٍ على الثقة والاحترام المتبادَل. ثمّ أشرعُ في التحضير للمقابَلات وإجرائها بأسلوبٍ يَحترِم الناجين والناجيات ويتيح لهم فرصةَ البوحِ بقصصهم وفقَ شروطهم. في مقابلةِ مريم وغيرِها، يساورُني الخوفُ والقلقُ من استعادة تجربة الألم أو استثارة ذكرياتها، مما حتّم الحصولَ على دعمٍ نفسيٍ ومشورةِ متخصّصِين.
كنتُ مسؤولةً عن تحرير الحلقات الأولى صوتياً، لذا كنتُ أسمعُ الشهادات وأنقّحُ الأصوات مراراً. لا أنسى لحظةَ الضغط على زرّ “إرسال” مع شعورٍ عميقٍ بالارتياح مساءَ كلِّ ثلاثاء. وفي كثيرٍ من الليالي لَم أَنَم بعد الإرسال بسبب الارتباك والتوتر. ومع ذلك، كان الإفراجُ عن الحلقاتِ ضرباً من التحرّر من العبء العاطفي. وكانت لي خططي للتكيّف مع الضغوطِ العاطفيةِ التي تصحبُ هذه العمليةَ. وكنتُ محاطةً ببيئةٍ اجتماعيةٍ وعائليةٍ داعمة، وبيئةِ عملٍ مشجِّعة. وكنتُ أحرصُ على تخصيص وقتٍ للراحة والأنشطة لأعزّز راحتي النفسية.
يختلف التوثيقُ الحقوقيُّ عن الصحفيّ. فبينما يهتمُّ التوثيقُ الحقوقيُّ بجمع المعلومات والشهادات والأدلّة لتوثيق الانتهاكاتِ بأسلوبٍ محدَّدٍ، لأغراضٍ قانونية، أو لدعوةِ المجتمع الدولي إلى التدخّل أو المساءلة، يميلُ التوثيقُ الصحفيُّ إلى عَرْض الأحداث موضوعيّاً، وقد يتضمّن بعضَ العناصر السرديّة لجعل القصّة أكثرَ جاذبيةً وتشويقاً، ليساهِم في غرس التوعية والتغيير في المجتمع.
وهذا ما فَرضَ عليَّ وعلى المشاركين والمشاركات شجاعةً استثنائيةً وفهماً عميقاً لأهميةِ هذه القصص في التركيز على انتهاكاتِ حقوق الإنسان، والمساهَمةِ في الذاكرة الجماعية. وفي الوقت نفسه، قد يكون سردُ القصّة مَصدراً للتعافي عند بعض الناجين والناجيات. بعد أن شاهدَت الحلقةَ التي شاركَت فيها قصَّتَها، أعرَبَتْ لي مريم عن امتنانِها العميقِ لإعطائها مساحةً تروي فيها تجربتَها من غيرِ ضغطٍ للكشف عن تفاصيلَ مؤلِمةٍ لَم تكُن مستعِدّةً لمشاركتها. علّمَتني هذه التجربةُ أن الشفاء قد يأتي من العدالة، ومن مشاركةِ قصص النجاة في آن.
بعد لجوئي إلى فرنسا عام 2017، انتهت تجربتي مع برنامج “عتم الزنزانة”. ووجدتُ نفسيَ أمامَ مرحلةٍ جديدةٍ من حياتي، في بلدٍ بعيدٍ عن مأساة سوريا، ولكن ليس بعيداً عن ذكرياتِها. التقيتُ بصديقتي لينا التي شاركتُ معها خطوطَ الأيّامِ على الجدران الباردة. تشاركنا الجدرانَ مرّةً أُخرى. لكنَّها جدرانٌ أكثرُ دفئاً وأماناً، في “بيت الصحفيين” الذي عشتُ فيه عندَ وصولي. هو بناءٌ مؤلَّف من أربعَ عشرةَ غرفةً، تديرُه منظَّمةٌ لاستقبالِ الصحفيين والصحفيات المنفيين والمعرَّضين للخطر. ومصادفةً سكنتُ الغرفةَ نفسَها التي غادرَتْها لينا قبل أقلَّ من شهر.
اقترَح عليَّ المخرجُ رمزي شقير المشاركةَ في مسرحية ” إكس عدرا” التي تعيدُ تصوُّرَ جزءٍ من تاريخ سوريا الحديث في عيونِ ستّ نساءٍ معتقَلاتٍ سابقاً، للتعبير عن التجارب في متاهات السجونِ والفروع الأمنية تحتَ حكمِ الأسدِ الأب حافظ وابنه “الرئيس الحالي” بشار. بدافعِ الفضولِ والحنين للمشاركة في حَبْكِ سرديَّةِ الثورةِ السوريَّةِ بأسلوبٍ جديد، قبلتُ الدعوةَ إلى التمثيلِ فيها على خشبةِ المسرح.
كانت هذه التجرِبةُ رحلةَ تحوُّل؛ إذ أثّرَتْ في تفكيري وشعوري، وجعلتْني أعيدُ النظرَ في أمورٍ شخصيَّةٍ وسياسيةٍ عدّة. وقفتُ على الخشبة، وشاركتُ قِصّةَ اعتقالي وقِصّةَ صديقي الشاب الفلسطيني خالد، الذي اعتُقِل معي في التاسع من يونيو عامَ 2013، ولَم أرَهُ بعدَها. وبينما أنا واقفةٌ على خشبة المسرح كنتُ أستعيدُ قِصّتَه وأتحدَّثُ بلسانه، محاوِلةً نقلَ تجربتِه وآلامه وأحلامه. متمنّيةً أن يُخلِّدَ المسرحُ سيرةَ هذا الإنسان الذي طالَب بالحرّية فتَوارَى في سجونِ النظام السوري.
كنتُ أقفُ على خشبة المسرح في عرضٍ تحضيريّ، وإذا بالنّصِّ يَمَّحي مِن رأسي. فنظرتُ إلى الجمهور باحثةً عن الكلمات المفقودة في وجوههم. بعد دقيقةٍ من الصمت ارتجلتُ نصّاً. في العرض نفسِه احتاجت صديقتي الممثلةُ فجأةً إلى الذهاب للحمّام، فغادَرَت المسرحَ بخِفَّةٍ وعادت. أضحكَتْنا عودتُها السريعةُ ومحاولتُها التصرَّفَ كأن شيئاً لَم يحدُث. ذكَّرَتنا تلك الضحكاتُ بأنَّ الفكاهةَ والخفّةَ يمكن أن تجدَ طريقَها حتى في الأوقات الأكثر توتّراً. كلُّ وقفةٍ على المسرح كانت جلسةً علاجية تفاعلية، هُيِّئَت لي بها الفرصةُ لمعالجةِ تجربتِي وتحليلِها في بيئةٍ داعمة ومتفهِّمة.
شاهدتُ رَجُلاً أصلعَ الرأس بينَ الحضور في أحد العروض، تحتَ ضوءٍ خافتٍ في المسرح، ولسببٍ ما ظننتُه خالداً. شَعَرتُ به تلك اللحظةَ معنا حقاً يراقبُنا من بين الصفوف، ويَسمعُ كلَّ كلمةٍ، وربما يشعرُ بالفخر لأنَّ قِصَّتَه ما تزالُ حيَّةً على خشبة المسرح. بحثتُ عنه بعدَ انتهاء العرض بينَ الوجوه المغادِرة ولَم أَجِدْه. كانت مشاركتي في هذه المسرحية وعداً بأنني سأُواصِل سردَ قصصٍ مثلَ قِصّةِ خالد، لأُذكِّر العالَمَ بأنَّ كلَّ رقمٍ إحصائيٍّ يُخفي وراءَه قصّةً إنسانيَّةً تنتظرُ أن تُروى وتُسمع.
في العرض الأخير للمسرحية عامَ 2019، دعاني المركزُ الأوروبيُّ للحقوقِ الدستورية وحقوقِ الإنسان ببرلين إلى الإدلاءِ بشهادتي على أنور رسلان، الضابطِ السابقِ في جهاز استخبارات نظامِ الأسد. والمركزُ الأوروبيُّ هذا مؤسسةٌ متخصِّصةٌ ترصدُ الانتهاكاتِ الحقوقيةَ وتوثِّقُها وتَدعمُ القضايا التي تنطوي على جرائمَ ضدَّ الإنسانية وتجاوزاتٍ ضدَّ الحقوق والحرّيّات الأساسية في السِّياقات الدَّولية. يعمل المركزُ مع أفرادٍ وشركاءَ عالَميِّين لمحاربة إفلاتِ المسؤولين عن الجرائمِ الجسيمة من العقاب. قضيّةُ “أنور رسلان ” التي تُسمّى أيضاً “محاكمة كوبلنز” نموذجٌ للجرائم التي يُعالِجها المركزُ؛ فهي محاكَمةٌ لأحد الأفراد الذين يُزعَم أنهم مسؤولون عن جرائمِ حربٍ وانتهاكاتٍ جسيمة.
قبلَ الإدلاءِ بشهادتي واجهتُ لحظاتٍ مَلْأى بالتّناقضات. فبينما أنا أمامَ فرصةٍ لمحاكَمةِ أحد الضبّاط المنشقّين الذي كان رمزاً للنظام، تذكَّرتُ نفسي حاملةً لافتاتٍ بدايات الثورة السورية 2011 تدعو الضبّاطَ إلى الانشقاق عن النظام والانضمامِ لصفوف المحتجِّين على القمع. ومع خوفي من المشاركة في ظُلم ضابطٍ انضمّ للثورةِ قرّرتُ المشاركةَ مدّعيةً في القضية، لأنّ هذ الضابط كان عضواً في المنظومة الأَمنيّة أكثرَ من خمسةَ عشرَ عاماً قبلَ الثورةِ ولم ينشقَّ إلا بعدَ عشرينَ شهراً من اندلاعها، ولأنَّ الثورةَ عندي فلسفةُ حياةٍ تعبِّر عن الأملِ والعدالة، ومن مبدأِ إيمانِي بضرورةِ عدمِ الإفلات مِن العقاب.
وثَّقتُ تجربتي مع عددٍ مِن المنظَّمات الحقوقية، وتحدَّثتُ عنها في وسائل الإعلام وعلى المسارح، لكنّ التحقيقاتِ الأولى بقضية “أنور رسلان” في مدينة برلين كانت مختلفة. كانت الأسئلةُ تفصيليةً جداً. طَلبتْ منّي المحقِّقةُ وَصْفَ الطريقِ بينَ الزنزانةِ والحمّام، وعدَّ الطوابقِ والدرجات التي صعدتُها إلى غرفةِ التحقيق، وذِكرَ تفاصيل المكانِ الذي كان يجلس فيه الحرَّاس. وطُلِب منّي أن أَرسمَ خريطةً دقيقةً للمكان من الداخل، وأن أتذكّر إذا ما كان للمحقِّق شامةٌ على خَدِّه. في تلك الدقائق، رأيتُ صورتَيْ حافظ وبشار الأسد معلَّقتَيْن على الجدار فوقَ سريرِ السجّانِين الذين كانوا يسمعون أُغنياتِ “فيروز” ويُلقُون النكات أثناءَ تعذيبِ المعتقَلين، كأنَّ التعذيبَ وسيلةٌ لتسليَتِهم. يومئذٍ رأيتُ بقعَ الدَّم على الجُدران وشممْتُ رائحتَها، وتفحّصتُ وجوهَ عشراتِ المعتقَلين العُراةِ يجلسون القُرفصاءَ أمامَ الحمّام منتظِرينَ دَوْرَهم للدخول إلى الزنزانات المكتظَّة. كلُّ هذه اللحظات أعادتني عُنوَةً إلى تلك الأيّام القاسية، حين كان الزمنُ يتباطأ وتَمُرُّ الدقيقةُ كأنَّها ساعات. صَعُبَ عليَّ استعادةُ هذه الجزئيات، لكن لا بأسَ؛ فهذه المرّة أُساعدُ القضاءَ في الوصول إلى الجناة بإعادة سرد الأحداث بدقّة.
في الجلسة الأولى بقاعة المحكمة بمدينة كوبلنز الألمانية جلستُ قربَ المتَّهم أنور رسلان. حاولتُ جاهدةً أن أنظر في عينيه، لكنَّه ظلَّ مطأطئ الرأسِ طوالَ الوقت، متجنِّباً النظرَ إليَّ أو إلى أيِّ شخصٍ آخرَ في القاعة. وأثناءَ قراءةِ الحُكم في الجلسةِ الختامية حرِصتُ على مراقبته عن كثبٍ متتبِّعةً أيَّ تغييرٍ في تعابير وجهِه لكن كانت ملامحُه صارمةً وجامدة، لا تنِمُّ عن أيّ تأثّرٍ أو استجابة. حتى عيونُه كانت ثابتةً لا ترمش كأنّما نُحِتَ مِن الحَجَر تمثالاً بلا روحٍ، أو ربما تدرّب على إخفاء مشاعره أثناء عمله ضابطاً في المخابرات. أمَّا أنا فكأنَّي كتبتُ نهايةً مقبولةً لفصلٍ من روايةٍ أكتُبُها أو يكتُبُها ليَ القَدَرُ.
في سياقِ المحاكَمات بألمانيا كانت الترجمةُ عنصراً أساسيّاً أثناءَ المحاكمة وفي مراحلِ التوثيق والإعداد جميعِها. في التحقيقات الأَوّليةِ رافقتني مترجِمةٌ ألمانيةٌ تتقِن العربيةَ. ومع تفضيلي مترجِمةً سوريّةً لتَفهم دقائقَ لغتِنا وثقافتِنا، أخبَرني المحامي أن الحيادية تتطلّبُ ذلك. كانت المترجِمةُ متأنّيةً في عملها، تتأكَّد مراراً من موافَقتي على الترجمة قبل أن أُوقِّع على المَحاضِر، ممّا أَعطى تجرِبتي صِدقاً ودقّةً في النقل.
أمّا في قاعة المَحكمة فتوفّرت الترجمةُ أثناءَ شهادتِي فقط، لكنها لَم تُوَفَّرْ للعموم. لذلك لَم تُتَح الفرصةُ لي ولغيري من السوريين والسوريات والجمهور الدولي الذي لا يجيدُ الألمانيةَ لحضورِ جلسات المحاكمة. مع أنَّ المركزَ الأوروبي للحقوق وعدداً من المنظمات السورية طلبوا إتاحة التَّرجمة للجمهور إلا أنَّ الطلب رُفض.
لَم يقتصر الدعمُ الذي قدَّمه المركزُ على الجوانب القانونية بل شمل الدعمَ النفسي، وهو إحدى مكوِّنات هذه العملية. في كلِّ مرَّة ألتقي موظّفِي المركز، كانوا يقترحون إحالتي على مراكزَ شريكةٍ متخصّصة بالدعم النفسي. وعلى أن الرحلةَ كانت شاقّةً، كنتُ متردّدةً في فتحِ أبوابٍ قد لا أستطيع إغلاقَها، لذلك شكرتُهم واخترتُ ألّا أحصل عليه. أمّا من الجانب المادّي، فقد كان المركزُ يتعهّدُ تكاليفَ السّفر والإقامة، ممّا سهّلَ عليَّ المشاركةَ متخفِّفةً من عبءِ النفقات.
هذه الرحلةُ التي بدأتْ بقرارِ المشاركة في ثورةٍ تطالِب بالحرية والكرامة الإنسانية، طافت بي في مظاهراتِ دمشقَ التي شهدَت بدايةَ الحُلمِ بالحرّية، وفي صمتِ جدرانِ الزنزانات، وفي تلك المسارح التي جَسّدَت مُعاناتِنا، ثمَّ انتهتْ بي في قاعاتِ المَحاكم التي سعت إلى تحقيقِ العدالة. اشتبكت الأبعادُ التوثيقيَّةُ والعلاجية في كلِّ محطَّةٍ من هذه الرحلة. وأكَّدَت هذه الجهودُ مجتمِعةً أهميَّةَ توثيقِ الجرائم والاعتداءات لإنجاز العدالة وبُرْء الجروح النفسيةِ وبناءِ الهُويّة. هذه العملياتُ المتكاملةُ جُزءٌ من مسيرتي الذاتيّة وتعزيزٌ للذاكرة الجماعية ودعمٌ للمجتمعات في طريقها نحوَ العدالة والمصالَحة.
في هذه المحاكمة تأكدتُ أنّ محاولاتنا لتحقيق العدالة قد لا تُؤتِي أُكُلَها فوراً، لكنَّها تُسجَّل للتاريخ. ومع كلِّ ما مررتُ به وجدتُ أسلوباً للتَّعبيرِ عن نفسي وشهدتُ على جرائمَ لا يجبُ أن تُنسى.