العميد الركن أحمد رحال
تاريخ النشر: 2021-01-19 05:00

طوال السنوات الست الماضية تسابقت موسكو وواشنطن بالإعلان، كل منهما على حدة بالانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” والقضاء عليه، لكن بعد أسابيع قليلة كنا نسمع أو نشاهد عبر إصدارات إعلامية للتنظيم وعبر الوقائع عن عودته وقيامه بعمليات يمكن وصفها بالدقيقة والمؤثرة، لتنسف كل تلك الانتصارات الوهمية التي يدعيها البعض خدمة لأهداف سياسية وتلميعاً لصورة قادتهم ورؤسائهم.

لا أريد الخوض بكيفية سيطرة تنظيم داعش على قرابة نصف الأراضي السورية والعراقية (عام 2014 سيطر التنظيم على مساحة تصل لـ 110 آلاف كم2)، وكيفية وصول التنظيم لقمة التمدد، والدفع بأمرائه للتربع على عرش مساحة جغرافية مترامية الأطراف، وإعلان ولايات الدولة وأن الرقة هي عاصمة الخلافة البغدادية، تلك الأمور تم نقاشها والاستفاضة فيها وقد نعود إليها، لكن اليوم سنتحدث عن أسباب عودة تنظيم “داعش” للبادية السورية والحرب الروسية المعلنة للقضاء عليه.

مع نهاية شهر آذار/ مارس من عام 2019 أعلن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحليفه “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية) عن الانتصار على تنظيم داعش والقضاء عليه وطرده من آخر الجيوب في قرى “الباغوز” شمال شرق الفرات وبمحاذاة الحدود العراقية، وحينها قيل إن معظم قيادات “داعش” قد قُتلت، وأن قلة قليلة منهم قد هربت جنوباً نحو البادية السورية أو شرقاً نحو “صحراء الأنبار” العراقية، وأن التنظيم لن تقوم له قائمة بعدها، وأن ما تبقى من التنظيم يبقى مهمة للقوات الروسية وحلفائها باعتبار أن مناطق البادية السورية تقع ضمن مناطق نفوذ وسيطرة “الروس” وحلفائهم.

لكن، خلال الأشهر الثلاثة الماضية يمكن القول إن تنظيم “داعش” قد آلم ميليشيات الأسد والروس عبر عمليات نوعية دقيقة، اعتمد فيها على التخطيط الدقيق والتنفيذ الصحيح العالي المستوى وحققت غزواته نتائج مؤلمة من حيث أعداد ونوعية الضربات والقوى المستهدفة.

مسرح الأعمال القتالية الذي يعمل عليه التنظيم في سوريا يمتد على مساحة تقارب 80 ألف كيلومتر مربع، ما يمنح التنظيم القدرة على المراقبة وجمع المعلومات واستغلال الظرف المناسب للانقضاض على ميليشيات النظام بشكل مفاجىء، وذلك أثناء انتقالها من وإلى محافظة دير الزور في أقصى شرق سوريا عبر صحراء الرقة، أو أثناء عمل دورياتها أو دوريات الروس، وكان ملاحظاً أن بعض الضربات كانت تحتاج لمعلومات استخباراتية “سطعية” دقيقة، وأن استطلاع “داعش” حصل عليها وخلال أزمنة قليلة نسبياً، تلك المزايا أعطت للتنظيم القدرة على تنفيذ هجمات ونصب كمائن في مناطق مختلفة من البادية، وتحديداً في منطقة الشعلة (غرب دير الزور)، صحراء البوكمال (شرق دير الزور)،  طريق دير الزور – الميادين، طريق محطة حميمة الثالثة باتجاه مدينة تدمر في ريف حمص الشرقي، منطقة الرصافة في ريف الرقة، منطقة إثريا في ريف حماة الشرقي، وصحراء السويداء، وبالتالي أضاف ميزة أخرى لعملياته العسكرية وهي القدرة على المناورة بالنيران والمناورة بالقوات ليس عن طريق الحركة بل عن طريق الانتشار والتموضع المتفرق وبمجموعات صغيرة لكنها مؤثرة، واستطاع “داعش” بعملياته اللاحقة وبالتكتيكات المستخدمة والأساليب المتبعة من تحويل البادية السورية لثقب أسود يبتلع ميليشيات النظام والقوات الروسية.

عملية الهجوم على رتل لـ “لفرقة الرابعة” التي يقودها اللواء “ماهر الأسد” والتي تعد الآن من أقوى تشكيلات جيش الأسد، وتتميز تحركاتها بالحماية العالية والإجراءات الأمنية شديدة التعقيد، ومع ذلك عندما انطلقت حافلاتها ضمن رتل محمي وتسبقه عربات استطلاع من مواقعها في محافظة دير الزور (شمال شرق سوريا) باتجاه العاصمة دمشق بإجازة صغيرة قبل رأس السنة الميلادية، وبعد أقل من (85) دقيقة على انطلاقها، نال منها أفراد تنظيم “داعش” وأوقعوا فيها خسائر كبيرة وصلت من حيث القتلى فقط لأكثر من (40) عنصراً، عدا عن الجرحى وحرق وتدمير العربات القتالية والحافلات، وكان سبق ذلك هجمات متعددة حققت نتائج جيدة للتنظيم وكارثية لنظام الأسد وحلفائه، وخاصة الروس عندما استطاع التنظيم من اصطياد وقتل ضابط روسي كبيرة برتية “لواء” بإحدى عملياته نهاية شهر آب:/أغسطس 2020، وبعملية مناورة عالية الدقة ينتقل “داعش” ليحرق رتلاً من صهاريج النفط على طريق “إثرياً” ثم ينصب كميناً لحافلة تقل (15) ضابطا وجنديا ما زال مصيرهم مجهولاً حتى الآن.

كيف نجح التنظيم بالعودة؟
من المؤكد أن هيكلية القيادة ومنظومات الاتصال وبقية مؤسسات الدولة الإسلامية التي كان يرأسها أبو بكر البغدادي قد تعرضت للكثير من الخسائر المادية والمعنوية والبشرية بعد المعارك القاسية التي خاضها ضد التحالف الدولي وشريكه “قسد”، تلك المعارك التي ألحقت دماراً هائلاً بمكونات وعناصر الدولة الإسلامية، والتي توجت بقتل أمير التنظيم “أبو بكر البغدادي” بعملية استخباراتية عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في شمال إدلب وعلى مقربة من الحدود التركية.

لكن الواضح أيضاً أن مقولة “الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك” كانت أحد المبادئ الذي اعتمدت عليه القيادة الجديدة لتنظيم “داعش” من حيث إعادة ترتيب ما تبقى من فلول التنظيم، وضمن الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة، مع تغيير في الاستراتيجية والخطط وبعض المبادئ.

تنظيم الدولة أدرك بأن سياسة الاحتفاظ بالمدن والتكفل بخدمات سكانها وضرورة رصد أعداد من المسؤولين والموظفين والعناصر لخدمتهم والحافظ على الأمن بمناطق وجودهم وغيرها من المسؤوليات التي تلزمه بها عملية الاحتفاظ بالمدن، كان خياراً خاطئاً  كلفه الكثير من الأعباء ويجب الابتعاد عنه حالياً وبما يتواءم مع وضعه المرتبك، وبالتالي التخلي عن تلك السياسة والابتعاد عن المدن والمناطق المأهولة.

أيضاً، تنظيم الدولة استوعب أن بنيته التنظيمية والقتالية وبنية منظومة الاتصال التي كانت تعتمد على القيادة المركزية لم تعد تصلح لتفاصيل المرحلة الحالية، وبالتالي أعاد صياغة استراتيجية منظومة قيادته العسكرية بنقل القيادة للأطراف ومنح حرية اتخاذ القرار للقيادات الفرعية مع الاحتفاظ بتوجه عام يرسمه أمير التنظيم ومجلس الشورى المحيط به، وبالتالي الانتقال من القيادة المركزية للقيادة اللامركزية وبما يتلاءم مع الظروف الميدانية المستجدة دون العودة للمستوى الأعلى.

بـتغيير استراتيجية العمل كان لابد أيضاً من تحضير مسرح الأعمال القتالية وتكتيكات خوض القتال، فالوجود في البادية السورية الخالية من أي وسائط يمكن أن تستخدم للتمويه والتخفي وفي ظل ظروف جوية قاسية “صيفاً وشتاء” كان لابد من تحضيرات وإجراءات فنية وبشرية شملت تطوير شبكات الأنفاق والكهوف القديمة، وإيجاد مقرات قيادة تحت أرضية، ومخازن ومستودعات قتالية وإدارية متعددة ومتفرقة، والتعاون مع عناصر تتبع لهم على دراية بمداخل وطرق البادية ومخارجها، كما يلعب عامل الطقس والرياح الرملية قدرة على التحرك والتخفي يمكن الاستفادة منها، وبما يشكل له الملاذ الآمن، والاعتماد على بناء منظومة سطعية وعناصر عملاء يتوزعون بمختلف المناطق لرصد تحركات خصومهم واستقاء المعلومات اللازمة لتكتيكاتهم الجديدة التي تعتمد مبدأ الكمائن والتلغيم مع استخدام عنصر المفاجأة، وتكتيك “أهجم، اضرب، أقتل، اغتنم، أهرب”، مع التركيز على القتال بتكتيك المجموعات الصغرى أو ما يسمى “الذئاب المنفردة”، ولنجاح هذا العمل كان يتوجب الحصول على المقاتل النوعي القادر على التنفيذ ولا نبالغ بالقول: إن عناصر “تنظيم داعش” هم الأقدر بين الموجود على الساحة السورية من حيث قدراتهم على التحمل ومن حيث معرفتهم بمسرح الأعمال القتالية، ومن حيث إصرارهم على تنفيذ المهام الموكلة نظراً للعقيدة القتالية التي زرعها قادة وأمراء وشرعيي التنظيم برؤوس مقاتليهم.
على الضفة الأخرى نجد أن الأمريكان وكأنهم يقولون نحن قمنا بما علينا وأن الكرة الآن بالملعب الروسي لإتمام المهمة كون وجود وتحركات التنظيم تقع في مناطق نفوذ الروس وحلفائهم.

أيضاً، الروس تلقوا ضربات موجعة على يد تنظيم “داعش”، و أدركوا أن خطر التنظيم يتمدد لأماكن باتت معها مواقعهم بخطر شديد، خصوصاً الموجودة في مدينة تدمر ومحيطها، لذلك أعلنت قيادة قاعدة “حميميم” عن إطلاق عملية عسكرية للقضاء على تنظيم “داعش” في البادية السورية أسمتها “الصحراء البيضاء” رداً على مقتل الجنرال روسي (اللواء فيتشسلاف غلادكيخ) بعد أن وقعت دوريّة للجيش الروسي في حقل ألغام زرعه مقاتلو التنظيم شرق مدينة “السخنة” في بادية “حمص”، ما أسفر عن مقتل الجنرال وإصابة آخرين.

هل نجح الروس بتحضيرات المعركة؟؟
لضمان نجاح أي معركة يجب أن تتوفر لها المقومات وأهمها الاختيار الصحيح لعناصر المعركة القادرة على تنفيذ المهام الموكلة بعد تدريبهم وتزويدهم بمعدات المعركة التي تتناسب مع حجم وطبيعة المهام.

وضباط التخطيط العملياتي في غرف العمليات العسكرية الروسية يدركون أيضاً أن أهم عناصر النجاح بالعمل العسكري بعد اختيار الأدوات والحليف القوى هو عملية قطع الموارد البشرية والمادية عن العدو، وهذا ما لا يتوفر بحيثيات المعركة القادمة لأن موسكو تدرك أنها فاقدة للحليف والشريك الصحيح القادر على تطبيق الخطط التي أفرزتها خرائط غرف العمليات في قاعدة “حميميم”.

التجربة ومعايشة الوقائع للجانب الروسي تقول إن حلفاءها من إيران ومن حزب الله وحتى نظام الأسد هم خير شريك وحليف لتنظيم داعش.

ألم يقم نظام الأسد وحلفاؤه من إيران وحزب الله بالحرب على فصائل الجيش الحر في “مخيم اليرموك” والتخلص منهم جميعاً عدا مقاتلي “داعش” حيث قاموا بنقلهم وتحت أنظار الجميع إلى وادي اليرموك بريف محافظة “درعا” معززين مكرمين بدل القضاء عليهم؟

ألم يطبق الجيش اللبناني الحصار على عناصر تنظيم “داعش” بالقلمون الغربي على الحدود اللبنانية بمعركة “فجر الجرود”، وبدلاً من قتلهم أو أسرهم كان لـ “حزب الله” رأيٌ آخر عندما قام بنقلهم بالحافلات المكيفة لمحافظة “دير الزور” ومنع عن الجيش اللبناني انتصاراً كان قادراً عليه؟؟

أحد ضباط جيش الأسد يقول في حديث خاص “تم نقله لنا”: إن المستغرب عندما تقوم وزارة الدفاع السورية بإعطاء أوامر بتشكيل محارس صغيرة على أوستراد “دمشق_بغداد” وبتعداد صغير من العناصر غير المدربة، ويُطلب منا تزويدها بمستودع ضخم من السلاح والذخائر لا يتناسب مع حجم الطاقم البشري ولا يتناسب مع خطورة المكان لقربه من أماكن نشطة لتنظيم داعش، ولنفاجأ بعد أيام قليلة بأن تنظيم “داعش” قد قام بقتل عناصر تلك المحارس واستولى على مستودعاتها من الأسلحة والذخائر، وكأنه يقوم بإمداد تنظيم داعش بالسلاح وتعويض النقص الذي يعانيه لاستمرار وجوده على الجغرافية السورية.

(لكن هذا لا يعني أن تنظيم “داعش” عجينة لينة وأداة طيعة بيد نظام الأسد وإيران، بل يمكن القول إنهم يتقاتلون أحياناً بمكان ويتوافقون أحياناً بمواقع أخرى ويتبادلون المنافع والخدمات وأن التحالفات التي تجمعهم هي تحالفات منفعية تزول بالوصول للأهداف المحددة لكلا الجانبين، والتجربة علمتنا أنهم يختلفون بأشياء كثيرة لكن الشيء الوحيد غير المختلف عليه هو كيفية وأد الثورة وقتل الجيش السوري الحر).

أيضاً، الروس يعلمون أن كافة ميليشيات إيران ومن يعمل معها من حزب الله وفاطميون وزينبيون وغيرهم لا يشاركون بأي عملية يكون طرفها الآخر تنظيم داعش ويضعون مبررات متعددة غير واقعية.

الروس اليوم بورطة حقيقية، تنظيم داعش يتمدد وباتت عملياته تشكل خطورة حقيقية على ما يسميه الروس “إنجازات” داخل الأرض السورية، وتزداد الورطة كون الشريك اللازم والكافي للقتال غير موجود في ظل غياب خبرات للجيش الروسي بالقتال الصحراوي والقتال بظروف جوية لا تتناسب مع إمكانيات وطبيعة الجيش الروسي غير الكافي أصلاً من حيث التعداد في الجغرافية السورية، وأن الاكتفاء بالزج ببقايا جيش الأسد لا يكفي، لأن كل العمليات التي قام بها هذا الجيش سابقاً كانت فاشلة عسكرياً بسبب استنزاف قوتها، وغياب القدرات البشرية أو الفنية أو المادية لخوض هذه المعركة، وغياب الدافع الأساسي الذي يحرض جيش الأسد على القتال وهو “التعفيش” (كون البادية السورية فارغة ولا توجد فيها مناطق مسكونة يمكن تعفيشها)، وفي ظل رفض عناصر المصالحات الالتحاق بجيش الأسد وانتهاء الرصيد البشري من الموالين للنظام في الساحل السوري أو رفضهم معظمهم الانضمام لجيشه، وزاد “الطين بلة” على الروس، قرار الانسحاب مجهول السبب لشركة مرتزقة مقاتلي “فاغنر” من دير الزور (وقد يكون انسحابها من كامل الجغرافية السورية) والذي وضع الروس بورطة جديدة.

الروس يدركون أيضاً أن سحب كامل وحدات “الفيلق الخامس” و “لواء القدس” (لواء القدس تستخدمه موسكو رأس حربة بالقتال ضد داعش في البادية السورية) التابعين لقاعدة حميميم من مواقعها في أطراف حلب وإدلب للقتال بالبادية السورية سيشكل فراغاً بالنفوذ ستستغله إيران بالسيطرة على ما تبقى من مدينة حلب ومحيطها.

جنرالات قاعدة حميميم وعلى رأسهم قائد قاعدة حميميم “الكساندر تشابكو” يرسلون البرقيات المستعجلة لمقرات عملياتهم في موسكو تختم جميعها بسؤال: ما العمل … نحن بورطة؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

القائمة