“حاجز لكفن” رواية لـ”واحة الراهب” تفكك بنية الاستبداد في سوريا

"حاجز لكفن" رواية لـ"واحة الراهب" تفكك بنية الاستبداد في سوريا
“في الحرب تضيع الهويّات. قد تُكتسب هويّة جديدة بقرار، وقد تُفرَض عليك هويّة لمجرّد خطأ. قد تكون امرأة محجّبة رازحة تحت سلطة زوجٍ ذكوري وجمعية دينية متشدّدة وأهلٍ غير متسامحين، وتُعدّ ثائرة أو إرهابية فقط بسبب اشتباه الضابط على حاجز درعا بحقيبة” بهذه الكلمات ذات الدلالات العميقة قدمت دار “نوفل” بيروت لرواية الفنانة والكاتبة السورية “واحة الراهب” الجديدة “حاجز لكفن” التي تسلط الضوء على استباحة نظام الأسد لحياة الناس قبل الثورة وبعدها، والمسالخ البشرية المسماة بالمعتقلات، التي تجرد البشر من إنسانيتهم، وتحولهم إلى مجرد عبيد وأدوات لخدمة النظام ومصالحه، بحياتهم، وموتهم، وكل شؤون وجودهم. ما يجعل منهم مجرد أحياء أموات، يحملون كفنهم بكل خطوة يخطونها، فهي كفيلة بدفعهم للانتقال إلى الضفة الأخرى من البرزخ الفاصل بين الحياة والموت -كما تقول كاتبتها لـ”زمان الوصل”- مضيفة أن الرواية تربط بين الظلم السياسي للنظام، والظلم الاجتماعي، المعاملة الدونية للمرأة في أغلب مجتمعنا في ظل الاستبداد والفساد والاستغلال والتخلف والتفاوت الاجتماعي والنظرة الدونية للمرأة.
وأشارت الكاتبة التي تنحدر من بيت أدبي بامتياز إلى أن فكرة روايتها “حاجز لكفن” بدأت بعد سماعها لشهادات المعتقلات وعذاباتهن وجعلت من هذه الشهادات وجعها وعذابها الخاص الذي لم تكن لتبرأ منه دون تفريغ هذا الألم على الورق وحفظ حق كل ضحايا المعتقلات بالتعبير عن مأساتهم، فما بالنا إن كان هذا التعذيب هو جزء من العذابات الهائلة التي تتعرض لها النساء في بلادنا، بمعاناتهن المزدوجة من المجتمع ومن الرجل المقموع من المجتمع، والقامع بدوره أيضاً.
واستدركت مؤلفة “الجنون طليقاً” أنها كانت تبحث عن موضوع لكتابته كسيناريو لفيلم روائي قصير، لكن حين بدأت الفكرة تتبلور، وجدت نفسها تميل لكتابتها كرواية، مما جعلها تغوص في أعماق الشخصيات وتبحر لغوياً في عوالمها بشكل أغنى وبأريحية أكبر.
ونوّهت محدثتنا إلى أن موضوع روايتها الجديدة يختلف عن موضوعي روايتيها السابقتين اللتين تختلفان بدورهما عن بعضهما البعض كموضوع وكأسلوب، موضحة أن للتعبير اللغوي في “حاجز لكفن” حيزاً واضحاً كأسلوبية للتعبير عن الحالة والهواجس والتداعيات، أكثر مما هي تركيز على الموضوع وتسلسل الأحداث. وأكثر إبحاراً في بواطن النفسية البشرية تعشق الغوص في أعماقها بمجازفة أكبر للجمع بين الخيال والواقع الذي طالما استهواها تحقيقه حتى في الأعمال التي تخرجها.
وأردفت أنها اعتادت دفع شخصياتها لخلق هذا الجمع كتعبير عن المفتقد في عالمها الواقعي أيضاً، والذي يتم التعويض عنه عبر الخيال والغوص في عالمها الداخلي وصراعاته وأحلامه.

*استلاب روح السوري

وعن سبب ودوافع اختيارها لعنوان الرواية الموغل في قسوته وغرابته وما دلالات هذا العنوان أبانت مؤلفة الرواية أن قسوة العنوان نابعة من استنباطها للفكرة من واقع موغل بقسوته أيضاً.
ولكون الحدث الروائي هنا قد نهل من قسوة غرابة التباس في الفهم، جعل مجرد تواجد بطلة الرواية في مكان وزمان ما، سبباً كافياً لتعرضها لمأساة كارثية غيرت مجرى حياتها.
وتابعت أن “دلالات العنوان تكمن في تلخيص المأساة السورية، التي جعلت من عصابة مافياوية تحكم شعباً بأكمله، تجعل من كل فرد سوري حاملاً لكفنه بيده كيفما تحرك، فما بالنا إن تعرض لأحد حواجزهم المميتة، فهل ستستوي حياته أو تبقى هويته على حالها بعد ذلك، حتى لو كان شخصاً هامشياً بريئاً لا يشكل أي خطر على أحد من أي نوع كان”.
وتوقفت الراهب لتشير إلى أن هناك اختلافاً بيّناً بين روايتها الجديدة وروايتيها السابقتين “مذكرات روح منحوسة” و”الجنون طليقاً” من حيث الأسلوبية ومضمون الحكاية فجوهر موضوع روايتها الأولى (مذكرات روح منحوسة)، حسب قولها.
هو كيف عرّى اندلاع الثورة حجم استلاب روح السوري الحرة، التي هامت ما يقارب قرناً من الزمان، مستعصية على التشكل في جسد يحرمها الحرية المشتهاة إلى أن توهمت حصولها على مبتغاها في مرحلة الخمسينات، وأردفت صاحبة الرصيد الثري في مجال الدراما والسينما تمثيلاً وتأليفاً وإخراجاً أن المرحلة الشاهدة على المتنفس الوحيد الحر الذي عاشه السوري بمناخ ديمقراطي مترافقاً مع مشروع الوحدة بين سوريا ومصر، استدعى التفاؤل بالمستقبل وللاستسلام أخيراً لولادتها الجديدة في جسد رجل. ليكتشف أن نحس عنف الديكتاتوريات يلاحقه روحاً وجسداً، مهدداً وجوده ورجولته، التي ضيعها.

*صراع التناقضات الإنسانية

وحول ثنائية القمع والاستبداد الممارس ضد المرأة من قبل المجتمع والسلطة الديكتاتورية على حد سواء في شرقنا العربي وكيف تناولت هذه الثنائية في ثنايا روايتها الجديدة، أشارت محدثتنا إلى أن كل أبناء الوطن يتعرضون للاضطهاد وقمع الحريات وما يستتبع ذلك من تعذيب على كل الأصعدة.. نفسية وجسدية، لكن المجتمع بقوانينه وتقاليده وأعرافه التي يصيغها الرجل، كلها مسخرة -حسب قولها- لإتاحة المجال حتى للمضطهد منهم للتنفيس عن هذا الاضطهاد، عبر حرف معركته الحقيقية عن مضطهِدِهِ الحقيقي المستبد.. بتقليبه ضد شريكته في الحياة.. باتجاه اضطهاد زوجته، أو أخته، أو أمه، أو ابنته، لذا تكون معاناة المرأة مزدوجة، من المجتمع، ومن الرجل المسيطر على هذا المجتمع وعلى مصيرها وحقوقها وحياتها. ولهذا السبب تبقى المرأة -كما تقول- هي الأكثر تهميشاً في المجتمع وحملاً لعبء صراعاته وتناقضاته الغنية درامياً. وعالم المهمشين هو أكثر ما يستهويها الكتابة عنه، لكونه يحرض بداخلها أقصى الانفعالات التعاطفية، ويشكل أرضية خصبة لتنهل من عالم صراع التناقضات الإنسانية والطبقية المتنوعة فيه من بابها العريض.
*آليات القمع

وفي سياق قراءته لرواية “حاجز لكفن” رأى الناقد “سلمان زين الدين” أن “واحة الراهب” تفكك في هذه الرواية آليات القمع في الفضاءات المختلفة بدءاً من البيت، مروراً بالمجتمع، وصولاً إلى الدولة. وهي آلياتٌ كثيراً ما يتم فيها تبادل الأدوار، فالأوسط هو جلاّد الأدنى وضحية الأعلى، في متوالية قمعية، وحول رأيها بهذه الطرح وإلى أي حد يمكن اعتبار تجربة التعبير عن القمع بكل أشكاله في (حاجز لكفن) تعبيراً عن تجربتها الذاتية تقول: “لا يمكنني اعتبار (حاجز لكفن) تجربة شخصية تعكس حكايتي الذاتية، وكذلك كل رواياتي السابقة، كما في روايتي الأولى مثلاً (مذكرات روح منحوسة) اعتبرها أحد النقاد وغيره من القراء سيرة ذاتية، رغم أن بطلها رجل وليس فتاة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك”

وأرجعت محدثتنا السبب في هذه الرؤية إلى كون الرواية تعكس درجة عالية من صدق التعبير عن عالم شخصياتها وسبر أغوار أعماقهم بإحساس مماثل لمعاناتهم، وتمكنت كما تقول من مشاركتهم به لكونها تتألم لألمهم وتعيش معهم معاناتهم كأنها معاناتها الشخصية، وهو ما تقوم به أيضاً، واكتسبت مصداقيته من خلال أدائها لأدوار متعددة المعاناة والتناقضات كممثلة. وهو ما يدفع بعض النقاد خطأً للظن بأنها تجربة ذاتية.

*تحريض الذاكرة

وعن طبيعة علاقتها بشخوصها وأبطال رواياتها أوضحت كاتبة الرواية أن أبطال رواياتها هم من يستدعونها للتعبير عن عالمهم وهمومهم وأحلامهم وصراعاتهم، بل إن هذه الشخصيات تطلق نفسها على سجيتها  بمعزل عنها وعن أي تشابه أو تقاطعات بينها وبين تلك الشخصيات التي لا تشبهها لا من قريب ولا من بعيد، واستطردت أن دورها هنا كدور المايسترو المحقق للهارموني بين آلات متعددة، لكنها تعزف فقرات لحن موسيقي واحد، أو كمحلل نفسي، يساعد على البوح بمكنونات أفئدتهم وما خفي من ذكرياتهم مهما غاصت في الأعماق ليتحرروا منها، دون أن يسمح لنفسه بالوصاية والتوجيه، إلا بحدود ما يساعد على تحريض الذاكرة وإنضاج الاستنتاجات في النهاية.

وحول ملامح خطابها الروائي إلى جانب كونها مخرجة درامية وسينمائية شهيرة وإلامَ تطمح على مستوى الرواية أشارت واحة إلى أن خطابها الروائي لطالما كان مكملاً لمشروعها السينمائي والفكري عموماً الذي بدأته -حسب قولها- بأفلامها السينمائية الطويلة والقصيرة كـ “رؤى حالمة” و”هوى “و”جداتنا” و”قتل معلن” وكذلك التلفزيونية كمسلسل بيت العيلة والنقمة المزدوجة.. وغيرهم من المشاريع البصرية التي تتيح لي الالتفاف على الرقابة النصية عبر إيحاءات الصورة، للبوح بالكثير من المحظور من الكلمات والأقوال وتمت مصادرته وإعاقة استكماله كما استكمال أي مشروع سوري وطني حقيقي إلى أجل غير مسمى، بفعل استبداد النظام ووأده للحريات وللفكر والثقافة. ويمكنني اختصاره بعنوان جوهري (التعبير عن الإنسان بكل تجلياته كأعظم قيمة بالوجود، مهما اختلفت مستوياته النفسية والمادية).

فارس الرفاعي – زمان الوصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.
You need to agree with the terms to proceed

القائمة