كان إطلاق صفة جاهليَّة القرن العشرين على المجتمع كله قاسياً، وجاء مفهوم الحَاكِميَّة مُكفِّراً لكل التشريعات المدنية ورافضاً كل ما تصدره البرلمانات من قوانين، وقد ضاق أُفق الدعاة فبالغوا في إطلاق المحرَّمات وتجاوزوا فهم الإسلام ذاته لتطوُّر الحياة.
وقد رأى كثير من المتشددين أن الديموقراطية مضادة لمفهوم الحاكِميّة المطلقة لله سبحانه؛ لأن البشر يصوغون فيها تشريعات تحكم بينما الحُكْم كله لله، وبرز من قادة الحركات الإسلامية مَن أعلنوا رفضهم التامّ للديموقراطية، بينما رأى الليبراليون في شعار الحاكِميّة ظاهرة سياسية، تقاوم السلطة الحاكمة مرتدية عباءة الدين، فلا شيء يمكن للمعارضين أن يقاوموا به سلطة العسكرتارية المخابراتية الظالمة غير الدين الذي هو قدسية وعقيدة عند الشعب عامة.
لا يمكن بحال أن يزعم هؤلاء المجرمون أنهم يطبقون الإسلام أو يقيمون الشريعة، أو يحتكمون إلى الله، فهم مرتزقة يؤدون وظائف وأهدافاً لا تخفى على الناس، وقد فضحهم مُشغِّلوهم أنفسهم.
ويقال: إن حسن البنا كان يعتبر الديموقراطية في بداية تأسيس ”جماعة الإخوان“ خدعة أجنبية، ولكنه أعاد النظر في موقفه وترشح مرتين للنيابة بل إنه ألقى محاضرة عن الديموقراطية الإسلامية قال فيها: ”إن النظام البرلماني ينسجم في المبدأ مع نظام الحكم في الإسلام“. لكن البنا وضع شروطاً للترشح، تنسجم مع مفهوم ”أهل الحلّ والعَقْد“ كما هو معروف في الإسلام، وقد وصل الإسلاميون -وبخاصة الإخوان- في العديد من الدول العربية إلى البرلمانات، ولكن الخوف من الفهم القاصر للحاكِميّة في الإسلام جعل الدول والشعوب تخشى من تجارب غير واضحة المعالم، وقد شهدنا فهماً عقيماً وتجربة وَحْشيّة قدمها تنظيم داعش الذي أعلن الدولة الإسلامية فكان أول ما فعله هو الاعتداء على أهل السُّنَّة من المسلمين، واعتبارهم مرتدّين وبذلك حارب الجيش الحر في سورية، وقتل الآلاف من الشباب السُّنّة، واعتدى على المسيحيين والإيزيديين وسواهم، وباشر السبي للنساء واستعاد أسواق النخاسة، وقطع الرؤوس، لينشر الذعر من الإسلام في قلوب الناس، وليؤكد لأعداء المسلمين أن الإسلام ”إرهاب دولي“. وكذلك قامت التنظيمات التي تعلن أنها إسلامية بجرائم متعمدة، وأذكر أن فاتحة حكم هؤلاء لإدلب كانت جريمة قتل لامرأة مسلمة في الستينيات من عمرها اتهموها بالزنا وأقاموا عليها حدّ القتل أمام ملأ من الناس دون محاكمة أو شهادة شهود، ثم تحدث زعيمهم عن مشروعه فقال: إنه يهدف إلى دعوة الدروز والعلويين إلى الإسلام فإن رفضوا فسوف يأخذ الجزية منهم، وكان واضحاً أن الهدف من هذا الخطاب هو تشويه صورة الإسلام وتقديم أدلة على كونه غير قابل للحياة، وكل هذا يؤكد أن كثيراً من هذه التنظيمات هي صناعات مخابراتية محلية ودولية هدفها محاربة الإسلام بإسلام مزيَّف، ولا أستبعد من ذات الريبة والشك بأن يكون الدعم الأوروبي والصهيوني لإقامة الدولة الإسلامية في إيران كان من ذات المنطلق رغم كل ما يُشاع من عداء غربي لها، ومَن يشاهد الترويج الإعلامي الضخم لاحتفالات عاشوراء حتى في عواصم أوروبا وما سال فيها من الدماء ومن اللطم والعنف حتى ضد الأطفال، يفهم سر هذا الاهتمام المريب.
ولنا أن نتذكر أن من أخطر ما سقطت به تجربة حكم طالبان وما ركَّز عليه الإعلام العالمي مطلع القرن، هو قيام الحركة بتحطيم تماثيل بوذا، وقد استنكر المسلمون عامة ذلك، وذكَّروا متطرفي طالبان يومذاك أن هذه التماثيل رآها المسلمون الفاتحون حين فتحوا بلدان آسيا ولم يهدموا تمثالاً واحداً، وكذلك رأى المسلمون الأوائل كثيراً من التماثيل في بلاد الشام ومصر، ولم يُهدَّم منها شيء وهي ليست للعبادة بالطبع، ولكنها آثار أمم سابقة وشعوب متعددة في العالم، والتماثيل الفنية الأثرية معروضة بحرص تاريخي في متاحف الدول المسلمة، ونذكر الاستنكار الإسلامي والشعبي لما قامت به حركات متطرفة ترتدي عباءة الإسلام في سورية حين حطمت تمثال أبي العلاء في معرة النعمان، وتمثال هنانو في إدلب، وأدرك الناس جميعاً أن هدف هذه التصرفات هو تشويه الإسلام، ونذكر ما قام به تنظيم داعش حين اقتحم مدينة تدمر وحطم أعمدة المسرح الروماني وسرق آثاراً مهمّة من معبدَيْ بعل شمسين وبل، وكان من أفظع جرائم داعش في تدمر قتل العالم الآثاري السوري خالد الأسعد وقطع رأسه وتعليقه على عمود كهرباء.
ولا يمكن بحال أن يزعم هؤلاء المجرمون أنهم يطبقون الإسلام أو يقيمون الشريعة، أو يحتكمون إلى الله، فهم مرتزقة يؤدون وظائف وأهدافاً لا تخفى على الناس، وقد فضحهم مُشغِّلوهم أنفسهم.
في التاريخ كثير من مراحل التطرف والتشدد والغلو، ولكنها من صنع البشر، وليست من الإسلام الذي يدعو بوضوح إلى العدل والإحسان، وكل من حادَ عن العدل فإنه خالف أهمّ ركن من أركان الفكر الإسلامي.
ولئن قال قائل: إن جرائم كبرى ارتُكبت في التاريخ الإسلامي من قتل واغتيالات وسواها، لقد قصف الحجاج الكعبة بالمجانيق وصُلب عبد الله بن الزبير وأبوه الزبير بن العوام وجده أبو بكر وأمه أسماء، فأقول إن الصراع كان سياسيّاً حول الحكم ولم يكن للدين شأن فيه، وإن اعتبر المتصارعون أنفسهم على حق وإليه يمضون مؤمنين بأن الحكم لله وحده، فإنهم لا يتحاربون على عقيدة أو حكم من أحكام الإسلام يختلفون فيه، فالصراع كله من أجل السلطة والحكم، وهم بشر يصيبون ويخطئون، ويقعون فيما يقع فيه المتحاربون على السلطة في كل الأمم.
ولئن قال قائل إن حمدان القرمطي فعل باسم الإسلام أشد مما فعل الدواعش، فقد أغار على الكعبة وقتل آلاف الحجاج وردم بئر زمزم وسرق الحجر الأسود، وصعد على عتبة الكعبة وقال (أنا بالله وبالله أنا – يخلق الخلق وأفنيهم أنا)، فأقول: إن المسلمين جميعاً يعلمون أن حمدان قرمط هو حمدان بن الأشعث القادم إلى الكوفة من خوزستان منتصف القرن الهجري الثالث، حاملاً مشروع الانتقام الفارسي من الإسلام.
وفي التاريخ كثير من مراحل التطرف والتشدد والغلو، ولكنها من صنع البشر، وليست من الإسلام الذي يدعو بوضوح إلى العدل والإحسان، وكل من حادَ عن العدل فإنه خالف أهمّ ركن من أركان الفكر الإسلامي.
وما يدعوني إلى هذا الحديث كله هو الامتحان الكبير للإسلام عَبْر ظهور تيارات تستلهم التاريخ، ويقع كثير منها في فهم متطرف لمفهوم تطبيق الشريعة، واليوم تُمتحَن طالبان مرة أخرى في أفغانستان، ويراهن المجتمع الدولي على إخفاقها في تقديم صورة معتدلة، وهي التي بالغت في التطرف في تجربتها الأولى، وعلى الرغم من تصريحات الجيل الجديد من شباب طالبان الذين قاموا بمراجعة فكرية كما أتوقع فإنهم اليوم أمام امتحان خَطِر، فإن لم يفهموا الإسلام فهماً جيداً ويقدموا منه رؤية قابلة للحياة، ومنسجمة مع القوانين الدولية، فإن العالم كله سيعود إلى مُحارَبتهم، بل إن كثيرين من أعداء الإسلام ينتظرون أن يغلب التطرف على أي نهج إسلامي معتدل، وحَسْبهم أنهم يرَوْا عشرات الآلاف من أبناء جِلْدتهم يهربون خوفاً من البقاء تحت حكمهم.
إن الإسلام القابل للحياة هو النموذج الشعبي العامّ، وهو يجد في الشورى (وهي الصورة الإسلامية للديموقراطية) منهج حكم يُستمد من الأخلاق والقيم الإنسانية السامية رؤيته عَبْر مفهوم (العدل) الذي يحدده العقل، ويعلنه الإسلام شعاراً ناصعاً، ويتيح لغير المسلم أن يعايشه دون خوف أو قَلَق على كامل حقوقه، وفيه للناس حرية الخِيار، وتحقيق صراحة الشعار (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).