تتعدد الآراء حول مدى استفادة الغرب من المشروع الإيراني وتوظيفه لخدمة أجندة معينة طالما أنه كان أفضل الخيارات السيئة.
لم يكن أمام الغرب إلا خيارين بعد تعذر إبقاء الشاه كإمبراطور لإيران، حيث استمرت ثورة الشعب الإيراني السلمية ضده لأكثر من عامين ولم يتمكن من قمعها مع كل الوحشية التي تعامل معها جهاز المخابرات سيء الصيت (السافاك).
كانت الحرب الباردة في ذروة اشتعالها، وكان جدار الجهاد الأفغاني يقف بوجه أحلام السوفييت بالتقدم إلى المياه الدافئة (التي طالما حلم ونصح أجدادهم القياصرة الروس بالوصول إليها).
وكانت الخيارات تنحصر في أنه مع استحالة انتصار الشاه وقمع الثورة، فإن الخيار الأكثر واقعية هو ارتقاء القوى والأحزاب الوطنية والماركسية لاستلام دفة السلطة، وبالتالي كل تلك القوى تكره الولايات المتحدة التي كانت الداعم الأول للشاه ويتم اتهام وكالة الـ (CIA) بأنها دبّرت الانقلاب على حكومة مصدق وأعادت الحكم البهلوي، إن وصول قوى معادية للولايات المتحدة للسلطة في طهران سيعني بالضرورة الارتماء في أحضان السوفييت الذين سيضعون أقدامهم ويغمرونها بمياه الخليج الدافئة، والتي تشكل ذلك الوقت (ولا زالت) أهم منابع واحتياطات الطاقة العالمية وهو أمر دونه خرق القتاد أمريكياً بل وغربياً أيضاً.
كان الخيار الأمريكي جازماً بتسهيل (ما أمكن) وصول قيادة إيرانية لرأس الهرم مكان الشاه من رجال الدين وهم النقيض الموضوعي للقوى الوطنية المحلية ولاحتمالات تمدد سوفييتي شيوعي إلى إيران، وكانت حلقتا الجهاد السني في أفغانستان والأيديولوجيا الشيعية بقيادة طهران، حاجزان يصعب على السوفييت اختراقه.
لم يكن كرت نظام ولاية الفقيه بالنسبة للولايات المتحدة أكثر من كرت لعب ظرفي لابد من حرقه يوماً ما.
ويدرك نظام الملالي أنهم يحظون برعاية أقلها غض الطرف عن كل أفعالهم بالمنطقة من خلال المسلسل الهندي للبرنامج النووي الإيراني وزحمة العقوبات والتهديدات، التي قد تكون أوصلته إلى العتبة النووية الحقيقية (وقنبلة على الرف) أو تمدده السرطاني في المشرق العربي والخليج، بحيث تمكن من السيطرة على قرار أربع عواصم عربية ووصول نفوذه للبحر الأبيض المتوسط ليطل على مضيقي هرمز وباب المندب، بل وامتلاك قرار فصائل جهادية تهدد أمن الدولة العبرية.
كل ذلك تم بعد حربين مجنونتين شنّتهما الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق انتقاماً لهجمات الحادي عشر من أيلول 2001 واستفاد نظام الملالي من نتائج الحربين حيث تمت إزاحة خصمين يؤرقانها من الشرق والغرب، بعدها حصل التطور في البرنامج النووي والإقليمي ولقناعة مترسّخة عند ملالي طهران بأن الغرب عموماً والأمريكان بشكل أكبر مازالوا بحاجة للاستثمار في مشروعهم وكان ذلك أدّى لارتكابهم أخطاء كارثية بل يمكن أن نسميها خطايا.
- لم يدرك القادة الإيرانيون أن الولايات المتحدة لم تستطيع أن تعتبرهم شربك أو وكيل أساسي في ضبط النظام الإقليمي يمكن الركون إليه. حيث أثبت المشروع الإيراني العابر للحدود والقائم على تحطيم حدود الدولة الوطنية وبناء نموذج الدولة الموازية عبر ميليشيات فاسدة مسلحة دينية عابرة للحدود تجعل من الدولة الوطنية هيكل صوري.
لم ينتج هذا النموذج أياً من درجات الاستقرار النسبي الذي تريده الولايات المتحدة في المنطقة، ولم يتمكن نظام ولاية الفقيه من الوصول لأدنى درجات التفاهم مع دول أو شعوب المنطقة الرئيسية سواء أكانوا عرباً أم أتراكاً أم إسرائيليين.
- لم يدرك القادة الإيرانيون أن فترة ضبابية الرؤية الإستراتيجية للولايات المتحدة بعد ضربات أيلول 2001 لها مدة محددة، إذ لا يمكن للقوّة الأعظم في العالم أن تبقى أولوياتها الاستراتيجية مبنية على محاربة الإرهاب السني، بل إن خطر التمدد الروسي والانتشار الصيني سيكون أولى بالمعالجة واعتبار من يرتبط بهم أو يتعاون معهم هو عدو أيضاً.
- لم يدرك القادة الإيرانيون هشاشة النظام الأمني (بكل أشكاله) الذي بنوه على امتداد 40 عاماً، فحجم الاختراقات (الإسرائيلية والأمريكية على وجه الخصوص) كبير جداً لدرجة ألا سر يخفى عليهما ومعروفة حالات الاختراقات لبنية النظام الأمني الإيراني، ولا أريد أن أشير إلى إلى حادثتين شهيرتين (وطبعاً ما خفي أعظم)، وهي حالات اغتيال ثلّة كبيرة من العلماء الإيرانيون وليس آخرهم أبو القنبلة الإيرانية وسرقة الأرشيف النووي.
- لم يدرك القادة الإيرانيون عمق الموقف الروسي منهم، فقد كان الروس من الملتزمين بكامل العقوبات التي تم إقرارها أممياً، إلى جانب عدم تزويدهم بأسلحة نوعية (كالطائرات الحديثة او صواريخ S400) أو غيرها بل أيضاً كانوا ملتزمين بعدم خرق التوافقات مع الغرب بشأن تهريب تكنولوجيا أو مستلزمات للمساهمة بإسراع البرنامج النووي. حتى في سورية وعند امتلاك روسيا للسماء السورية لم تجر أي تقييد لحركة الطيران الإسرائيلي الذي يستهدف التموضعات الإيرانية المهمة أو شبكات تهريب الأسلحة.
- لم يدرك القادة الإيرانيون مدى حساسية وضع السفارات الأمريكية بالنسبة لحاكم البيت الأبيض والمؤسسات الفاعلة والشعب الأمريكي عموماً، عندما كان قائد فيلق القدس ونجم محور إيران الإقليمي يهمّ باحتلال السفارة الامريكية في بغداد (كاستنساخ لاحتجاز رهائن أمريكيين في سفارة بلادهم في طهران)، تم قتل سليماني وأبو مهدي المهندس بضربة واحدة، وهذا حدث نوعي خطير يعبر عن تمرّد نظام الملالي على كل جوهر التوظيف الغربي للمشروع الإيراني.
- لم يدرك القادة الإيرانيون أن منطقة الشرق الأوسط خط أمريكي أحمر، فكما فشلوا في جرّ الروس للتحالف معهم، فشلوا في جرّ الصين أيضاً رغم توقيع صفقة قرن كبرى معهم بنصف ترليون دولار.
- فشل القادة الإيرانيون بتقدير أن الرئيس الأمريكي الجمهوري الجديد سينسحب من الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه الديمقراطي، ويذهب للعقوبات الأمريكية القصوى ومن ثمّ نقاط بومبيو الـ 12، بعد أقل من عامين على إبرام الاتفاق وهذا يشير إلى عدم توافق الحزبين والمؤسسات العميقة على توقيع الاتفاق أو إدراكهم أن إيران بدأت بانتهاكه قبل أن يجفّ حبر التوقيع عليه.
- فشل القادة الإيرانيون بتقدير أن الرئيس الديمقراطي الجديد (وهو من الفريق الذي صنع الاتفاق) لن يعود إليه كما كان في السابق رغم إعلان الرئيس بايدن في حملته الانتخابية أن العودة للاتفاق النووي مع إيران هو حجر الزاوية في سياسته الشرق أوسطية.
- فشل القادة الإيرانيون بتقدير مدى عمق العلاقات بين جناحي الأطلسي، إذ راهنوا كثيراً على إحداث شرخ في تلك العلاقة وجذب أوروبة إلى جانبهم، رغم الخلافات التكتيكية بين أوروبة وأمريكا، إلا أنهما متوافقان بالاستراتيجيات العليا الواجب السير بها.
- شكّل الانخراط الإيراني بالحرب الروسية الأوكرانية إلى جانب موسكو القشة التي قصمت ظهر البعير.
إذ حاولت القيادة الإيرانية أخذ مواقف معتدلة بالبداية من إدانة الغزو لقناعتها بتحقيق انتصار روسي سريع، ولا يجعلها تقطع حبالها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
لم يحدث ذلك بل تعتبر إيران الدولة الوحيدة بالعالم التي أمدّت الجيش الروسي بالصواريخ والمسيّرات، ومستقبلاً من المتوقع أن تمدّه بالميليشيات، وكان حرص الرئيس الروسي على كشف المسيّرات الإيرانية وهي تقصف محطات الطاقة الكهربائية في أوكرانيا، لتوضيح صورة القصف الإيراني على أوروبة عامة عبر حليفها الأوكراني.
وبات الموقف الأوروبي والأمريكي من الانتفاضة الإيرانية ودعمها وإدانة الأفعال الوحشية لقمع النظام لها وفرض مزيد من العقوبات على مسؤولين إيرانيين وكيانات رسمية.
ويشكل الإنذار شديد اللهجة من مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بضرورة تعاون إيران مع طلبات التفتيش للمواقع السرية النووية الثلاثة (وهو ما ترفضه إيران رفضاً قاطعاً وتعتبر إلغاءه أحد أهم شروط العودة لاتفاق نووي جديد) بالسرعة العاجلة والقصوى وتلك العبارات بنص الإنذار تعني أن الملف الإيراني سيتم تحويله لمجلس الأمن وعودة إيران لآلية فرض العقوبات الأممية (سناب باك) دون الوقوع بمطب فيتو روسي، وبالتالي عودة إيران للفصل السابع الذي يبيح استعمال القوة بمختلف أشكالها